شهداء انصار عرفتهم، الشهيد علي إبراهيم (احمد) / محمد علي ارحيمة
هذا ليس رثاء، فانا لا اجيد الرثاء. بل ربما أجيد استذكار الوجع. الوجع الذي خلفه غياب الكثير من الأصدقاء والرفاق والاحباب في غياهب الموت. كنت من زمان قد أعلنت حقدي على هذا ملاك الموت الذي خطف ويخطف الكثير ولا يشبع..
يا صديقي يا علي وصباح، أعتذر من إني جئت باستذكاركم متأخرا. صدقوني لم انساكما ابدا، لكن الان ها هي الفسحة الأولى التي وهبني القدر إياها ان ارسم على الهواء وعلى الورق ذكرى صور لصداقتنا القديمة.
يا صديقي لم أستطع ان انساكما ولو لحين. أنتما رفيقي الطيبين. رفيقي الذين أحبهم ولم يورثوني غير هذا الوجع وحرقة القلب. رحلتما مبكرا، كان بالإمكان البقاء ولو لحين.
كل واحد يلتقيكم يضن انكما اخوة او ربما أولاد عم، ليس لأنكما دائما سوية، بل لأنكما تشبهان بعضكما بكل شيء. يفهم الواحد منكما الاخر دون أي حديث بل بالصمت. كنتما تتقاسمان حتى الدور في الرواية وسرد الحوادث التي عشتموها او عاشها غيركما في أزقة الناصرية او في بقاع الأرض التي مررتم بها. وانا اشك ان كانت خصوصية لأي واحد منكم دون الاخر، بل تقاسمتم كل شيء منذ ان كنتم صغارا. وليس من الغريب في الامر بأنكما لم تفترقا عن بعضكما حتى في التنظيم او حتى في التكليف في انجاز المهام الحزبية. لذا كانت قسوة الفراق كبيرة وعظيمة على وضاح عندما قرر جلالة ملاك الموت زيارة علي فقط وترك تؤام روحه يتعذب.
لكنك يا صديقي يا علي كنت الاكثر عجالة في استقبال ملاك الموت، انت الذي تجرعت كأس السم، كاس الثاليوم بدل عني، وعن صباح، كاس السم الذي قدمه لنا صبي المقهى في قرية ورتة، في ضحى يوم الخامس من نيسان 1981. المقهى الكائن عند حافة النهر. والصبي المليئة نظراته بالحقد لنا وبالأسرار. دعوتنا انا وصباح ان نذهب سوية للمقهى الذي يقدم لضيوفه عصير البرتقال. (دعونا نشرب الشربت في الكهوة)، هكذا قلت أنت حينها. كانت ثلاثة من كؤوس العصير البرتقالي، جاء بها صبي المقهى لنا، وواحد منها كان مشبع بالثاليوم صار من نصيبك. لا أتذكر اية يد امتدت في البدء لتأخذ كأسها، لكن الاقدار شاءت ان يكون الكاس لك. كان من الممكن ان يكون من نصيبي انا او من نصيب صباح، لكنك اثرت الفداء، فديتنا في ربيعك الرابع والعشرون ومنحت الحياة لنا، لتموت انت ونحيا نحن.
وهل هناك أكبر من تلك التضحية من اجل الآخر؟!
نعم كان يومها تجمع كبير للأنصار في قاعدة ورتة، التي أخذت اسمها من قرية ورتة، وهي واحدة من مناطق بالك، والتي تحسب على ارياف راوند وز. كنت انت وتوءم روحك صباح في مفرزة ملازم خضر حيث قدمتم من قاعدة ناوزنك الى ورتة. كانت الغاية تشكيل الفوج الخامس أربيل على شرف ذكرى أعياد أذار1981 وذكرى تأسيس الحزب. اما نحن فوصلنا ورتة قبلكم في مفرزة من قاعدة كوستة بقيادة مام خضر روسي. وكان لقاءنا في ورتة مفرح وذو مذاق خاص لأنه الأول في تجربتنا. كنت تقول لي انا الان اشعر بالراحة هنا وليست في اليمن، هذا مكاننا الحقيقي ومن هنا نتطلع للداخل. لكن الثاليوم لم يمهلك طويلا. أرسل القتلة السم لك وللرفاق خضر حسين ونوزاد وبيد عملاءهم في القرى. لم يمهلك طويلا سقطت في المسجد تعاني ورفيقنا النصير دكتور رنجبر يجري لك كل ما يستطيع وسط غضب وهستيريا عمت الجميع. كان ملازم خضر يعضد بالرفيق رنجبر الذي نجح في أعادة انفسك بعد ان خطفها الموت. اما انا المبتلى بحب رفاقي فقد كان همي السيطرة على انفعالات صديقك وضاح. كنت جل ما اخشاه ان ينتحر اعقاب موتك. كنت خائفا ومرعوبا. لكنك أخيرا سلمت الروح لملاكها وتركتنا حيرى، فريسة للحزن.
والان اعترف يا رفيقي بان موتك كم هو قاسي ومحزن علينا جميعا، لكنه كان الحدث الجلل الذي وضع في دواخلنا البذرة الأولى لبناء قدرتنا النفسية على تحمل رحيل الأحبة. قبلك كان في رأسي شيء نظري بحت عن الشهادة وعن الفراق، لكن انت منحتنا القدرة الحقيقية على التحمل..
انتما يا رفيقي‘ يا علي، يا وضاح كنتما كما انا، طلاب لم نكمل دراستنا. اجبرتنا فاشية البعث الصاعدة ان نترك مدارسنا ونفل في ارض الله الواسعة. انتما مع رفاقكم في الناصرية قطعتم الصحراء نحو الكويت، وانا ورفيقي الاخر قطعنا الشطر الشرقي نحو الحدود مع إيران. ومن هناك وبعد دوران الأيام نلتقي في اليمن لنتعارف ونبدئ صدقاتنا..
كنت انت ووضاح تنتظرنا في خور مكسر لنذهب سوية الى المعسكر التدريبي في عدن حيث بلغنا من قبل المنظمة في محافظة ابين بسياسة الحزب الجديدة وهي العودة الى الوطن وهذه المرة نحو الشمال. كنت انا وصديقي سلام. وفي المعسكر تلقفنا الفقيد أبو شاكر، البدين بعض الشيء واتخذ مني ومن وضاح جيران له داخل القاعة. كنا شباب يافعين نحب أبو شاكر ونتحمل شخيره الذي يأتي بالتائه. نعم كانت أيام حلوة. ثم كررنا التجربة مرة أخرة في الدورات التخصصية بمقاومة الطائرات التي طالت الشهرين. وفي المساء الأخير جاء الينا مسؤول منظمة الحزب في عدن ومعه مجموعة من جوازات السفر ويوزعها علينا. ويأمرنا بالمغادرة فورا الى المطار فالطائرة ستقلع بعد ساعات. كنا نحن كالأسرى او إذا شأت القول رفاق مطيعين ننفذ سياسة الحزب دون نقاش. هكذا علمونا الشيوعية. رفض المسؤول ذهابنا الى ابين وجلب حاجيتنا الشخصية وتوديع الرفاق والأصدقاء وربما المرأة التي نعشقها. صعدنا الطائرة، الطائرة العجيبة، وجلسنا متقاربين على صفين من المقاعد نحن الستة حيث أضافوا لنا أبو عثمان وأبو حازم وجميعا من الناصرية. كنت لم افهم بعد التهمة المبتلى بها الرفيق أبو عثمان وهي ((ألحاروكة)) او إذا شئت سوء الطالع فأينما يحل تحل المصيبة. كان أبو حازم قبل ان تقلع الطائرة بدء بضربه واضطهاده في مزاح ثقيل وكانت حجته محاولة إطفاء الاشعاعات السلبية والقاتلة لدى أبو عثمان. لكن وضاح كان يصيح (ما لكو واحد غير أبو عثمان يودونه وينه) وكنت انت الوحيد الذي يدافع عن أبو عثمان ويعتبره ضحية. كنا نضحك جميعا. اما انا فقد كنت كالمفجوع الذي لم يأكل منذ أشهر خاصة وانا في طور النقاهة من مرض الملاريا الذي الم بي. وهل تتذكر ماذا أصاب أبو عثمان من احراج وذهول عندما بدئت الطائرة ترقص في الهواء رقصة الموت، مما حتم على قائدها تغير مسارها من الشام الى الكويت. ثم وبعد ساعات في المطار تم استبدال الطائرة بواحدة ثانية..
في الشام رحلونا مباشرة الى القامشلي. وهناك علبونا في غرفة لدى واحدة من العوائل الكريمة قرابة الشهر بعد ان فصلوا عنا بعض الرفاق حتى ساعة رحيلنا..
سلمك الرفيق ذو الشارب الكث، ورقة الترحيل وان تكون انت مسؤولنا نحن الثلاثة (أبو احرار وعلي إبراهيم وصباح مشرف) حتى الوصل للقاعدة في كوستة. (اسمعوا رفاق أنتم شباب واخترتكم ان تجربوا هذا الطريق الجديد عبر تركيا لأنكم تحملون جوازات سفر حديثة. لدينا الثقة بانكم سوف تتصرفون بالصحيح ونحن نعول عليكم) ثم أكمل الرفيق جلال الدباغ حديثه معنا (اسمعوا شباب سوف تواجهون في الأنصار حياة صعبة فيها من كل شيء فأرجو ان لا تتفاجؤوا بأي شيء، ان لا تتفاجؤوا بان هناك ضعفاء او منهارين او متعبين، أنتم شيوعيين وقد اخترتم هذا الطريق وطريقنا دائما صعب ومعبد بالتضحيات). منذ ذلك اللقاء ولم أرى جلال الدباغ الا بعد مرور قرابة الأربع والعشرين عاما. لم أستطع ان أنسي كلامه. كان دقيقا وامينا ورائع في نقل الصورة لنا نحن الملتحقين الجدد وكم احترمته وما زلت أكن له الاحترام لأنه كان صادقا وامينا معنا..
ظهيرة 26/كانون الثاني /1981 وصلنا القاعدة كوستة. قضينا في الطريق ليلة واحدة فقط ، صحبنا بها رفيقنا ئازاد الذي استقبلنا في مدينة فان التركية ثم سلمنا الى أحد رفاقنا من اكراد تركيا. كان اسمه دكتور زكي. الذي اوصلنا الى كوستة..
في كوستة كانت المفاجئة الجميلة لكم، انت ووضاح. كان في القاعدة اخوك زكي. زكي الذي فارقكم في الناصرية واختفى، وهذا هو الان قد سبقكم الى الأنصار. ذبتم مع زكي في عناق وعاطفة نقية. كان وضاح مرة يبكي ومرة يضحك وسط الرفاق أبو آمال وأبو علي الشايب والمخابر كامران ونبيل والرفيق الخباز الاخرس والكثير من أنصارنا الرائعين. وبعد يومين افترقنا. ذهبتم أنتم مع ملازم خضر العائد توا مع مفرزة من روست بعد إتمام بنائها. كانا فيها على ما اتذكر الرفاق أبو سلمى، ابو زياد وأبو سيف وسيروان وماموستا هيرش وأبو سعيد واخرين. اما انا فذهبت في مفرزتي الأولى مع الرفيق سيروان، وفيما بعد ملازم سيروان)).
وهكذا التقينا هنا في ورتة لنودعك. ودعناك في المقبرة الصغيرة على سفح جبل كاروخ حيث نمت نومتك الأخيرة مساء السادس من نيسان.1981 بعد ان اودعت لدينا حبك اللامحدود للعراق.