مرحاض الأنصار / نصير عواد
المناطق الحدودية الجبلية، الصخرية، في حقيقة الامر هي لينة وينتهكها الجميع جيئة وذهابا، حتى أنني لم أستطعْ تبيّن إن كانت قرية "ناوزه نك" هي قرية عراقية أم إيرانية، فلقد كانت العشائر والعائلات في تلك الرقعة متداخلة عبْر التزاوج وصلات القرابة البعيدة، وكان الانصار أبناء المنطقة في رواح ومجيء مستمرين لتبادل الزيارات. في ذلك المكان الوعر كان الأنصار يتداولون طرفة عن مرحاضٍ بُنيّ على عجلٍ بين منحدريّن في "ناوزه نك" يسمونه "الحدود العراقية الإيرانية"، وآخر بُني في "نوكان". في البداية ظننت أن الفكرة اختراع أنصاري للسخرية من الانظمة العسكرية ومن سياسات الدول التي ترى خطوط الحدود من منظارها، لحين سماعي أن مرحاض آخراً في منطقة "بهدينان" كذلك بُنيّ عند الحدود العراقية التركية. بدت فكرة تعدد بناء المراحيض في هذه الامكنة النائية سريالية، تخفي استهتارا بمفردات الحدود والجغرافية، وأنها قد تكون مقصودة من ذوو المخيلة الطرية الباحثة عن الفرق، ولكن في النهاية كل شيء وارد في حياة الأنصار الصعبة وأن ما يحدث هو أبن الواقع الذي اختلت موازينه.
نستطيع الحديث عن صحة، أو عدم صحة، بناء المراحيض في تلك الأمكنة المهجورة ولكن في الحاليّن ينبغي التعامل بواقعية مع حقيقة أن وجود اعداد من الانصار في المواقع التي بُنيت عند الحدود العراقية الإيرانية، أو التركية، هم بحاجة إلى أن يعيشون ويرتبون أمورهم وفق قوانين الطبيعة، وأنهم بحاجة إلى أبسط أنواع الراحة والنظافة لتخليص اجسادهم من الفضلات. ثم أن هناك مراحيض بُنيت في مواقع ليست حدودية لماذا لا يتم التوقف عندها سلبا أو أيجابا. صحيح أن الحياة في المقرات الثابتة أكثر استقرارا من تلك التي تكابدها المفارز الجوالة، وأن النصير في تنقله المستمر بين الجبال والوديان غير محكوم على الدوام بمكان يتغوط فيه، وأن البعض يفعلها متى ما اضطر لذلك، ولكن هذا لا يبرر خرق الضوابط الاجتماعية والتغوط في كلّ مكان وكشف العورة أمام أنظار الآخرين، وبالتالي لابد من وجود حلول تتماشى مع الظروف المتغيرة للأنصار، من بينها وجود المرحاض واختيار مكانه. إن فقط تصور حياة العشرات من الثوريين والمناضلين والأساتذة الجامعيين والقادة السياسيين يعيشون سوية من دون وجود المرحاض يُعد كابوسا، خصوصا عند النساء. ثم حتى الحيوانات تقضي حاجتها في حفرة ومن ثم تغطيها بالتراب.
جرت العادة، في المواقع الثابتة، أن يُبنى المطبخ من الحجر والطين والخشب قريب من غرف النوم. ويُبنى المرحاض من نفس المواد بعيد عن غرف النوم، يُبنى فوق حفرة بسيطة على مساحة متر مربع، مع ستارة من القماش تضمن الخصوصية وتمنع الذباب. ثم يجري تعيين نقطة الحراسة في موضعٍ يشرف على كلّ المكان، يستطيع الحرس المناوب رؤية الذاهب للمرحاض وسماع اغنيته التي يدندن بها في الطريق. ربما يتعذر في الظروف الاعتيادية بناء مراحيض يتوافق عليها الجميع، نساء وأطفال وشيوخ ومقعدين، ولكن في حياة الأنصار لا توجد الكثير من الاختيارات ولذلك كانوا يشيدون مرحاضا مشتركا واحدا في الموقع لعشرات الأنصار. يشيدونه سهل الاستعمال ومنسجم مع حاجات الطبيعة، ويكون بعيدا عن غرف المعيشة، في منحدر مجرى الماء لضمان شطف اليدين وجرف الفضلات. بالطبع لم يفكر أحدا في أن يُبنى المرحاض في اتجاه معين، في استقبال "الكعبة" أو في استدبارها، كما كان يحدث في بيوتنا، وكان عذرهم أن الجبال الشاهقة اقامت ساترا طبيعيا يفصل بينهم وبين العالم الآخر.
الحديث عن الغائط في الظروف الاعتيادية يسبب نوعا من الحرج لصاحبه ولكنه في الجبل، في ظروف الشحة والقمل وسوء التغذية قد لا يكون كذلك. كلّ ما تفرزه تجربة الأنصار هو جزء منها. حياة النصير فيها الكثير من أسباب الضغط، وأن قلّة الغذاء ومحدودية أنواعه يزيد المعاناة ويؤثر بشكل مباشر على صحة النصير ويجعله عرضة للخمول والكآبة ونقصان الوزن، وكثيرا ما نسمع شكوى الأنصار من غياب التوازن الغذائي وتكرار بعض مفردات الطعام: العدس، الفاصولياـ البرغل، الجاجي. وهذه الأخيرة، المصنوعة من الجبن والثوم البري، أكثر ضحايا الأنصار ومبعث كرههم، أطلقوا عليها تسمية حادة وجائرة "تي أن تي". بعض الانصار جعلوا من العفونة المفرطة في "الجاجي" الذي يقدمه دوما فقراء الفلاحين لمفارز الأنصار، جعلوا منه حكاية الحكايات، وتساءل بعضهم إن كانت العفونة سر من اسراره أم هي جزء من القيمة الغذائية للجبن؟ وهل كان "الجاجي" يُحفظ في جوارب عتيقة أم هم يصنعونه جنب المرحاض؟. كثير من الحكايات والاسئلة اشارت إلى أن معدة المقاتلين كانت من بين أكثر مشاكلهم حضورا في الجبل، كيف يملئوها وكيف يفرغوها. فمن حقهم أن يشعروا أنهم بخير وأن اجسامهم تؤدي وظائفها بشكل طبيعي، بعد أن ملّوا رؤية غائطهم وهو يشير إلى سوء أوضاعهم الصحية والنفسية والاقتصادية. كان "أبو سحر" كثير التذمر من شكل غائطه الذي صار شبيه بـ"البعرور" وكان كعادته يتساءل بسخرية إن كانت الممثلة الإيطالية "صوفيا لورين" تعاني مثله (أم أن غائطها شبيه بمعجون الاسنان؟).
أبناء جلدتنا، الجالسون على الضفة الأخرى للنهر، كانوا يتصورون أن حياة الأنصار الشيوعيين في الجبل تسير فقط على قدمين، القتال والسياسة، وأن الحديث عن هموم الجنس والطعام والصحة والذهاب المنتظم لتفريغ الأمعاء ليس من أولويات المناضلين الذين يواجهون الديكتاتور بصدور مفتوحة، وبالتالي فأنه ليس من اللائق الحديث عن موضوعة المرحاض في حياة الثوريين. أسوق ذلك لأني عندما رويت حكاية المرحاض المبنية عند الحدود، بعد أعوام، بدى للشيوعيين الحنبليين الذين طال وجودهم بالمنفى واحتفظوا بقدسية الوطن وحدوده في ذاكرات معقمة، بدى لهم أن الأنصار الذين تواجدوا في تلك المناطق كانوا يمسحون مؤخراتهم بخرائط البلدان.