مِحنة الكتاب في حياة الأنصار / نصير عواد                            

قبل صعوده الجبل وإعلانه الكفاح المسلح أسلوبا للنضال، كان الحزب الشيوعي العراقي يحتمي بسياجٍ جماهيريّ واسع ومنضمات شبابيّة ومهنيّة ناشطة تستطيع إيصال سياساته إلى أبعد بيت وريف ومدينة عراقيّة، إلاّ أنه في الجبل صار يناضل بقاعدته وكوادره الحزبية المعروفة بخبرتها وثقافتها. صحيح أن تغيّر أسلوب النضال جلب ويلاته معه، إلاّ أن هذا ليس موضوعنا الآن، موضوعنا هو أن القاعدة الحزبية المتواجدة في الجبل كانت بطبيعتها متعلّمة وتميل إلى الحراك والإبداع وتنشيط المبادرات الشخصية الصّغيرة، قاعدة حزبية تميل إلى القراءة بشكل واضح، ليس مصادفة غريبة أن تجد بينهم مَن يرسم ويغني ويُمثّل تزجية للوقت، أو تجد مَن يكتبون القصائد والدراسات وهم ليسوا بشعراء أو كتّاب متخصصين، فذلك جزء من طبيعتهم ومن ميّلهم للثقافة.

القراءة باعتبارها جزء من المتع القليلة المتوفرة في الجبل، هي ظاهرة أنصاريّة بامتياز، ومن النادر خلو مزودة أحدهم من كتاب، إن كان سياسيا أو أدبيا. فباستثناء كتب الطبخ نصادف حضورا متنوّعا للكتب الأخرى، باللغتين العربيّة والكرديّة، في مقرات القواطع والسرايا الثابتة، إضافة إلى ما يحمله الأنصار معهم في المفارز المتجوّلة بين القرى. هذه العلاقة الحميمة بالكتاب قد يكون سببها الظاهري هو الابتعاد عن الحياة الطبيعية وغياب التلفزة والصحف والمجلات الثقافية ولكنها في واقع الأمر عادة قديمة جلبها الأنصار معهم من بيوتهم ومدنهم وأماكن عملهم، عادة شالت معها حلوها ومرّها من دون ان تستطيع النيّل منها سجون الديكتاتور ومطارداته وغلقه لدور النشر ومصادراته للكتب الحمراء، عادة عمّقتها العزلة وظروف النضال الصعبة في الجبل، واستمرت مع المقاتلين حتى بعد مغادرتهم كردستان وتوزّعهم على القارات الخمس.

حرب الأنصار انتجت علاقة "مُحاصرة" بالكتاب. ففي الجبل لا توجد مراجع أو كتب تخصص في حقل معيّن ينبغي اقتناءها، وليس كلّ الكتب الموجودة تنسجم مع توجهات الانصار الفكريّة والثقافيّة، حتى أنه لا توجد في بالهم كتب جديدة أو كتب يخططون لقراءتها. فالكتب كانت قليلة جدا، وكلّ كتاب هو مهم وعليهم قراءته. أحياناً يعيدون قراءة بعض الكتب أكثر من مرّة، وقد يحفظون صفحات كاملة عن ظهر قلب، دون أن يشعروا بأن ذلك مضيعة للوقت، فهم على أية حال منسيون بالجبل ولديهم الكثير من الوقت. في ظروف أخرى، أكثر استقرارا وتسكعا، كانت عيونهم تمر بسرعة على اغلفة الكتب، وقد يشعرون بالملل من المعلومات التي تضمها الصفحة الاولى، فما يهمهم هو المضمون فقط. يروي بعض الأنصار كيف كانوا يقرؤون أكثر من كتاب في ذات الوقت، وكيف كانوا يلقون بالكتاب جانبا في حال أنهوا ثلثه دون أن يفهموا شيء منه، ولكنهم في الجبل صاروا يقرؤون كلّ ما يقع تحت أيديهم ويعبرون، مبتسمين، الأخطاء الاملائية المتناثرة بين السطور ويستمتعون بملمس الكتاب حتى لو التصقت أوراقه أو سقطت منه فصول، حتى أنهم حذفوا من قاموسهم مصطلحات الكتب المستعملة والطبعات التجارية التي كانوا يناكدون فيها أصحاب المكتبات. بالنسبة ليّ قرأت كتبا لا أعرف أسماء مؤلفيها ولم انسجم حتى مع مواضيعها، وبتُّ أتوقف طويلا عند أسم دار النشر وعدد النسخ المطبوعة ورقم الطبعة، لغرض المحافظة على علاقة قديمة بالكتاب. وأستطيع القول لو أن كتباً قد وقعت بيديّ يومذاك عن فن الطبخ وقراءة الطالع والابراج لما ترددت لحظة في قراءتها، مع أني لا أؤمن بالأبراج، وأن الطعام الذي اتناوله محصور في خانة البقوليات والمعلبات المنتهية الصلاحية.

إنّ اصابع الأنصار التي لم تُداعبْ جسدا دافئا طيلة أعوام كانت رقيقة في ضم الكتاب، خبيرة في تقليب صفحاته والعناية به. وكان من النادر بين الانصار وجود من يخربش بقلمه على أو يخط تحت السطور التي يجدها مهمة، ولكن العناية والحذر لا يمنعان من أن تكون سيرة الكتب محزنة، وأنه لم ينجُ أغلبها من العفن واصفرار الاغلفة وتساقط الاوراق. فهو، الكتاب، يدور في الجبال من نصير إلى آخر ومن مفرزة إلى أخرى، يعبر روبارات وتهدد وجوده عواصف ثلجية ويتعرض إلى كمائن وظروف قتال أسوة بحامله، قد لا تنفع في حمايته وسائل التجليد البدائية وكيس النايلون الذي غالبا ما يُحفظ فيه. يُروى عن الشهيد "مريوان" الذي غرق في "الزاب" أنهم وجدوا في زوّادته كيسا من النايلون فيه رغيف خبز وكتاب.

في الجبل صارت المعرفة جزء من حياة الأنصار اليومية، بلا ألقاب أو درجات أو تسميات، يقف الكتاب في سلّم أولوياتها. بمعنى أن الكتاب لم يكن اكسسوارا أو جزء من ديكور المنزل أو حاجة للتباهي، كما هو في ظروف أخرى، بقدر ما كان ضرورة حياتية لا تقل حضورا عن الطعام والسلاح. ولذلك لم تعدْ تُبهر الانصار كمية الكتب التي يقرؤونها ولا حتى الحوارات وإبراز العضلات الفكريّة فيما بينهم، بقدر ما كان يهمّهم التواصل وتطوير المعارف والمعلومات ومتابعة العناوين والأسماء الجديدة، إنْ وجدت. قبل صعودنا الجبل لم يأتِ ببالنا أن الكتب حيّةً بهذا القدر وأنها قد ترتبط بحياة النصير على هذا النحو، يحملها معه أينما ذهب، يجد لها مكانا في زوادته مع رغيف الخبز واحتياط العتاد، يضعها وسادة تحت رأسه أحيانا. كان "أبو ميلاد" طيبا لا علاج له، مثلما كان شجاعا وفوضويا. ففي سهر الليالي قرب المدفأة كان يضع استكان الشاي على الكتاب، ولا يهمه كثيرا تململ الآخرين، وأحيانا يتحاور ويعلو صوته وتنتفخ اوداجه وهو ممسك بالكتاب ويهزه بسبابته وابهامه، لغرض الدفاع عن موقفه. مرّةٌ خرج "أبو ميلاد" من التواليت مبلل اليدين وهو يشد بشرواله العريض ويحمل كتاب تحت أبطه، وعندما شاهده "أبو سحر" على هذه الحال قال له (والله يابو ميلاد هذا الكتاب لو عنده نقابه كان اشتكى على الأنصار الشيوعيّين).

النصير الشيوعي يتمتع بنكران ذات عال، قلتها كثيرا، وهو قادر على مساعدة رفيقه والتضحية من أجله، لا شك في ذلك، ولكن حين يصل الحديث عند عتبة الكتاب يتحسس النصير زوّادته وتبرز أنانية غريبة على ملامحه ويدافع بأظافره عن كتبه القليلة، حتى لو تطلب الأمر الاحتيال والكذب أحيانا، واضعا على جهة أخلاقية الأنصار وتبادل المعرفة ونظام الاستعارة الهش. بالطبع ليس غريبا أن تفشل الجهود التي بُذلت في الجبل لغرض تأسيس مكتبة وتنظيم عمل الاستعارة وطرق الاستفادة من الكتب القليلة، فالسبب ليس فقط قلّة الكتب بالجبل أو في طبيعة حياة القواعد الثابتة والمفارز المتنقلة، وليس فقط أن الانصار اعتادوا في السابق القراءة ببيوتهم لا في المكتبات العامة، بل السبب في ذلك هو نزعة الـ "تملّك" الحاضرة بقوة عند الأنصار، وما زالت حتى اليوم في ذاكّرة الكثير منهم حكايات وخلافات عن كتبٍ لم تُعاد إلى أصحابها. ولا أبالغ كثيرا في القول ان لكلّ نصير تاريخ في سرقة الكتب، يبدأ من مدينته ولا ينتهي بجبال كردستان. والملفت أن بعض الانصار الذين بالغوا في ذلك ذهبوا يتحدثون عن "السرقة المشروعة" للكتاب وأنه من الطبيعي ممارسة ذلك في الجبل. نحن في المواقع الثابتة كنّا أكثر ضحايا المرور المفاجئ لمفارز الانصار الجوالة، بسبب أنهم سيرحلون قبل طلوع الفجر وسيحملون معهم ما تيسر من الكتب الموجودة في القاعدة، وسيختارون أفضل أحذية "السمسون" المركونة عند الباب.