رجل الايام الصعبة (الاستاذ كوجر) -1- / فرهاد رسول             

رجل الايام الصعبة (الاستاذ كوجر) فرهاد رسول وترجمة ماهر هندي

المشهد الثاني

بعد ان بدأ الارهاب البعثي  وقيادة (حشع) بقصد الحفاظ على حياتهم، اداروا ظهرهم للجماهير بشكل عام، واعضاء ومناصري الحزب خصوصا قد تشتتوا بشكل كبير، استطيع ان اقول اصدقاء ومناصرين قلائل بقوا بدون  ان يتعرضوا (لانتزاع اعتراف و براءة منهم)، اما الذين تبقوا فكانوا يعيشون بحالة اختفاء منهم في مدنهم ومنهم من هرب الى بغداد، وبيتنا كان له نصيب من ذلك، اعتقل والدي واخذت منه براءة، لكن اخي الكبير (كاكل) الذي كان طالب اعدادية صناعة، يبدو انهم يذهبون الى المدرسة بقصد اعتقاله، لكنه اجتاز سياج المدرسة ونجى بنفسه، حتى كتبه ولوازمه الاخرى اتى له بها احد زملاءه من جيراننا.

بعد مرور فترة علينا ونحن بهذا الحال، وبحالة غير جيدة مخافة اعتقال اخي الكبير (كاكل)، وفي يوم صيفي حار من عام (1979) اذا لم اكن مخطئا، كان شهر رمضان، ولان ابي كان صائما، كلفني ان اذهب واشتري (رقي) للمساء، جلت كثيرا حتى اطراف محلة اسكان ومحلتنا ، بالضبط امام مدرسة (دار المعلمات الابتدائية) والتي كانت وقتذاك هناك، وجدت بائع رقي، استغربت لان لم يكن في هذا المكان قبلا اي بائع رقي، على كل ، انا اريد (رقية)، ذهبت اليهما، كانا شخصان غريبان، اتذكر انني اخترت رقية بسعر( 225 فلسا اي اربعة دراهم ونصف) هذا الشخص الذي اخذ مني النقود، شكله لم يكن غريبا عليّ، قال(يالله، ان شاء الله هذا الشاب الوسيم، يكون لديه خردة، لم يتبقى لنا خردة، ونحتاجها جدا) انا وبتركيز كبير على وجهه (وكأنه لايزال امام عيني الان) فقد كان لابسا ثوبا ابيض ممزق قليلا وشروال فاتح اللون ، دققت فيه كثيرا وبطريقة اندهاش قلت له ( لا والله، ليس معي خردة، فقط لدي هذه ال 250 فلسا) احسست وكأنه يريد ان يتخلص مني، قال، (يالله ،ليس هناك مشكلة) بدلا ان يعطيني فقط 25 فسا، اعطاني 50 فلسا، واعطاني الرقية بيدي وقال، اذهب بالعافية عليكم.
 اخذت الرقية وعدت الى البيت، في الطريق كنت افكر بباعة الرقي هؤلاء ، خصوصا هذا الشخص الذي تحدث معي، لانه كما قلت شكله لم يكن غريبا، وكأنه هو ايضا قد عرفني ، وصلت الى البيت، ابي وكل العائلة كانوا جالسين، اخي الكبير (كاكل ) ايضا كان في البيت، في تلك الايام كان يأتي  قليلا جدا الى البيت لان كان يعيش بحالة اختفاء، وضعت الرقية وقلت (والله لقد اشتريت هذه الرقية من شخص يشبه الاستاذ ناصح بالضبط) قال ابي (ماذا؟؟ الاستاذ ناصح يبع رقي؟؟) قلت (شخصين قد يبيعون رقي عند دار المعلمات احدهم يشبه كثيرا الاستاذ ناصح) والدي رفض وقال ( ليس هو، ممكن ان يكون شخص اخر يشبهه) لكن (كاكل) سأل عن المكان وخرج قائلا (سأعود للعشاء).

بعد مدة علمنا ان بائعي الرقي هؤلاء كانا (الاستاذ ناصح، والاستاذ عبدالله شريف) بقصد اعادة تشكيل التنظيم قاموا بذلك، وهناك اتفقوا مع اخي كاكل على ان يشكلوا خلية حزبية في هذه المحلة ومحلة الاسكان، من الاشخاص الذين لم يقدموا البراءة او من اناس موثوقين.

كذلك سمعت، من اجل اعادة تشكيل التنظيم الحزبي  ماموستا ناصح، كان يزور  بصفة تاجر لشراء الصوف، منطقة كنديناوه، والقراج، وقد التقى باغلب هؤلاء الناس الذين هم محل ثقة ، واعادهم ثانية الى العمل الحزبي، لكن بسرية، ولا اعلم اذا كان الاستاذ عبدالله شريف في هذا العمل معه ام لا، وهو لا يزال على قيد الحياة ويستطيع الاجابة عن هذا السؤال.

المشهد الثالث

بعد ان  خف قليلا ضغط نظام البعث لاعتقادهم بانهم قد انهوا المهمة، وكما تحدثت سابقا فان اغلبية الاصدقاء واعضاء الحزب وقعوا تحت طائلة (انتزاع الاعترافات والبراءات) عاد الوضع نسبيا الى طبيعته، ومراقبة البيوت ومداهمتها قلّ نسبيا، فازدادت زيارات اخي كاكل للبيت، وفي بعض الليالي كان ينام ايضا في البيت، احدى هذه الليالي في اواسط الخريف، وكانت ليلة ماطرة بمطر ناعم خفيف، ومحلتنا لانه لم يكن قد مضى وقت طويل على انشائها كانت جميع ازقتها قد استحالت طينا، وكان هواء تلك الليلة باردا، طرق على بابنا، ذهبت وفتحت الباب رأيت (الاستاذ ناصح) بملابس عجييبة تتكون من بيجاما وكرتك (القطعة العلوية من الملابس الكردية) وحذاء جيد واقفا امام الباب، حذاءه كان متطين بعض الشئ وملابسه كانت مبتلة قليلا، قلت له تفضل ادخل، قال (لا، لن اجلس، اطلب لي كاكل لكن لاتقل له ان الاستاذ ناصح قد طلبك، قل له صديقك، كي لايعرف والدك) يبدو انه قد اتى بمهمة حزبية، حيث انه كما تحدثت سابقا، كانوا قد بدأوا بتنظيم انفسهم وتشكيل خلية حزبية، لكن بسرية بالغة، وشكل ملابسه ايضا كان ليوهم الناس، وبهذه الطريقة اخبرت اخي كاكل وذهب، ومضت فترة طويلة الى ان عاد، وهو ايضا اكد علي ان لا ادع ابي يعلم بان (الاستاذ ناصح) قد اتى، وانه يلتقي ب (كاكل).

الوضع بشكل عام كان يسير بهذا الشكل حتى مايقارب الشهر مرة ثانية في احدى الليالي (الاستاذ ناصح)بنفس الطريقة اتى الى بيتنا سرا، وامضى وقتا طويلا مع (كاكل)، اختفوا، الى ساعة متأخرة من الليل عاد (كاكل) تطلع نحوي عدة مرات، وكأنه يريد ان يقول لي شيئا، اخيرا قال لي، غدا سأخذ منك حذاءك (الشورو) وحزامك (بشدين) وانت اشتري لك غيره، تصورت انه يمزح معي، لانه عدة مرات اخرى كان يأخذ اشيائي  ويستعملها.

في صباح يوم( 8\11\1979 ) ذهبت الى العمل، ظهرا كان وضع بيتنا طبيعيا، عند المساء كان كذلك، لان كثير من المرات اخي كاكل لايأتي ليلا الى البيت، لكن بعد العشاء، (جميلة اخت عبدالله) اتت الى بيتنا وقالت (وجدت هذه الورقة في بيتنا، ماذا بها؟) لانها كانت اميّة، نظرت الى الورقة انها رسالة (قاسم اخو جميلة ) ومكتوب فيها (انا وكاكل سنذهب الى الجبل سنلتحق بالحزب وسنصبح بيشمركه). من هنا فهمت، ان تردد الاستاذ ناصح على بيتنا بالاضافة الى التنظيم الحزبي، تهيئة وارسال الرفاق على عاتقه، واي شخص يريد ان يتصل بمفارز الحزب ف(الاستاذ وتنظيمه) يسهلون له الامر.

اتذكر انه بعد ان ارسل الرفاق باكثر من شهر، انتشر خبر بان (الاستاذ ناصح) قد ضاع خبره، بعد ذلك اتضح ان مديرية الامن قد راقبته، وبعيدا عن اعين الناس اختطفوه، وهو عندهم في السجن، يتعرض لتعذيب شديد، بهدف الحصول منه على اعتراف، لكنه ابدى صمودا جيدا.

اخبار مختلفة كانت تنشر، مرة كان يقال انه توفي تحت التعذيب، ومرة كان يقال انه اصبح معوقا، واشاعات اخرى عديدة مثل هذه، والتي كانت جميعها اخبار سيئة، الشئ الوحيد الذي لم يكن يذكر ولم يحسب له اي حساب ،ولم تكن هناك مخاوف من ان (الاستاذ) سيعترف، يبدو ان الجميع كانوا يعرفون شجاعته وصلابته، بحيث انه مرة والدي كان يتحدث عن الصمود لصديقه (انا اعرف هذا الرجل اذا اقتلعوا جميع اضلاعه فلن يعترف، اي نوع من الرجال هذا).

بعد اكثر من ثلاثة اشهر، يوما في وسط السوق، في ازقة القصابين من بعيد لمحت (الاستاذ) لكنه كان ضعيفا بعض الشئ، ويبدو عليه الهزال، ليس كما كان سابقا بتمام نشاطه وحيويته، من جهة كان ذلك بالنسبة لي غريبا، ومن جهة اخرى فرحت كثيرا، لاني علمت انه قد اطلق سراحه، اتيت الى البيت ورأسا اوصلت هذا الخبر (المفرح) لابي، في البداية لم يصدق وقال( لم يكن هو، لانه يقال انه تحت التعذيب قد فقد حياته) ولانني كنت متيقن من كونه هو قلت (في قضية بيع الرقي، لم تصدقني، هذه المرة ثق بانني رايته انه الاستاذ ناصح)، عندها بعد الظهر ذهب ابي  الى السوق وعاد مساءا مبتسما ابتسامة مليئة بفرح واضح وقال (صدقت، الاستاذ وبعض الاشخاص الاخرين اطلق سراحهم)

من الجدير بالذكر، كما تبقى في ذهني، (الاستاذ) سجن ثلاثة اشهر وخمسة عشر يوما، في هذه الفترة ، تعرض فيها  لاشد انواع التعذيب ، بدون ان ينطق من فمه كلمة واحدة، في الوقت الذي كانت اغلب اسرار حزب مدينة اربيل عنده، حتى طريق اخراج وايصال الرفاق كان يعرفه، ومن المحتمل انه كان يعرف اماكن المفارز الاولية ايضا.