نهاية الكفاح المسلح-29/ فيصل الفؤادي
الفترة الخامسة 1988- 1989
بعد انتهاء الحرب كان لدى الاحزاب والجماهير في منطقة كردستان العراق توجس بهجوم النظام الدكتاتوري عليها , وكان التفكير أن النظام يهيئ لذلك الهجوم بعد أن ينقل قواته الى المنطقة ويعمل على تنظيمها , بالنسبة لنا في الحزب الشيوعي العراقي وقواته درست قضية العوائل المتواجدة التي حوصرت وأغلبهم أهالي الانصار والملتحقين بالحزب والكفاح المسلح , وقد قررت القيادة في بعض المناطق التسليم الى النظام وذلك في بداية الهجوم في 25 أب من عام 1988 وبالفعل سلمت العوائل نفسها الى قوات النظام الفاشي من جيش وجحوش الذين قاموا باعدام كل من سلم نفسه أليهم والذي عرف فيما بعد بـ عمليات (الانفال) وهي أسم لسورة في القرأن الكريم، والتي راح ضحيتها 180 الف مواطن كردي .
وبالنسبة لقوات البيشمه مركة والانصار الاخرين من القوى المتواجدة فلم تستطع المقاومة أومجابهة 150 الف من الجحوش والجيش مدججين بالسلاح وتساندهم الدبابات والمدرعات وقطاعات عسكرية وبمصاحبة الطيران من الهليكوبتر والطائرات النفاثة والتي راحت تقصف أغلب المناطق , وقد أنسحبت قوات الانصاربأتجاه تركيا وأيران وبعضها الى الحدود السورية , ومنهم من أختفى وعاش ظروف غاية في الصعوبة .
لقد شاهدنا القسوة بكل تفاصيلها والقتل العمد والتنكيل ضد كل من يلقى القبض عليه , ولم نر أي جانب أنساني يشعرك بأنه أخيك في الدم والتأريخ والحضارة , بل أنك عدوه الاول!!
لقد شاهدنا الكثيرمن المأسي لتلك العوائل الكردية المنسحبة و (المتبهذلة ) وهي تعاني من ظروف غاية في الصعوبة، من حرمان وجوع وفقدان الاحبة .
أن أنهيار الحركة ككل جاء نتيجة ظروف معينة في اغلبها ذاتية أي الاحزاب الكردستانية بأشكالاتها ومن جراء علاقاتها المتوتره ونزاعاتها وايضا اخطائها الداخلية التي سبق وان تحدثنا عنها , أضافة الى علاقاتها مع الدول المحيطة التي لا تريد الخير للحركة نفسها , وكذلك الظروف والمتغيرات الدولية التي كانت في غيرصالح القوى الوطنية والخيرة حيث كان الانكسار بشكل عام لهذه القوى .
لقد تبعثرت قوات (البيشمه ركة – الانصار ) في مناطق كردستان العراق وعاشوا ظرفا صعبا , حيث لم يكن لهم خيارا بل أجبروا على مغادرة كردستان التي سبق لهم وان حرروا مناطق كبيرة منها وأصبحت تحت سيطرتهم .
وقد قام الانصار بأخفاء الاسلحة والوثاثق السرية والمواد التي لا حاجة لهم بها, وقد وجهت قيادة الحزب على خفض أعداد المفارز وأن تتحول الى مفارز صغيرة .
وبالمقابل كان النظام يرسل دعاياته حول تحشده وتجميع قواته وقد أثرت هذه الدعاية على المواطنين البسطاء فراحوا ينسحبون من المنطقة مع عوائلهم وماشيتهم وأخف حاجاتهم الثمينة وقد تأثرمزاج الجماهير بشكل سيئ وكانت تدرك أن النظام سيقوم بهجومه على المنطقة بعد أن أنتهت الحرب مع أيران .
أسباب فشل الحركة الانصارية
( لقد انتكست الحركة الانصارية عام 1988 لاسباب ذاتية وموضوعية بعد أن تركت دروسا غنية للحزب ومسيرته, ولعموم الحركة الوطنية في بلادنا)[1] .
لا أريد التحدث عن فشل الكفاح المسلح والثورة بشكل عام بقدر مايعني الموضوع , فشل تطور هذه الحركة الانصارية التابعة للحزب الشيوعي العراقي وبرغم أن الحركة الانصارية كانت مستقلة تنظيميا وفكريا وعمليا الا أنها كانت تتأثر بالحركة الكردية ككل وهي جزء منها وتعمل في مناطقها , وفي وقت معين أشترك الانصار في كثير من المعارك ضد النظام الدكتاتوري العارفي بعد حزيران عام 1963 .
- جاء تبني الكفاح المسلح كرد طبيعي على سياسة النظام الدكتاتوري الذي أراد أن ينهي الحزب . ولم ياتي ذلك برغبة ذاتية كان يخطط لها مسبقاً. وهناك اطروحة مرشدة للينين عندما اكد على التحليل الملموس للوضع الملموس يتيح للحزب الثوري اختيار الشكل النضالي الملموس. والمعنى هنا واضح وهو ان اختيار الشكل (او الاشكال) النضالي الملموس لا يخضع للرغبات الذاتية.
- خاض الحزب الشيوعي العراقي الكفاح المسلح بهيكله العام بصورة أساسية أي بأعضاء الحزب وكوادره .
- أدى صراع الاحزاب الكردية في مابينها وبعضها مع الحزب الشيوعي الى تعقيدات في مرحلة معينة من النضال .
- كانت الحركة لا جماهيرية , وهي أقرب ما تكون الى منظمة حزبية عسكرية[2] .
- لم تستطع قوات الانصار من كسب قواطع أو أفواج من الجيش العراقي , الا بعد انتفاضة أذار 1991 .
- ضعف الاعلام والتعبئة والدعاية والتي لم تستطع الوصول الى مناطق في عمق العراق ( في 2004 أتصلت بأحد المواطنين لطبع كتابي مذكرات نصير في حي الجامعة ببغداد وتحدثت عن الكتاب وحياة الانصار , وقال لي لم أسمع بأن الحزب الشيوعي العراقي يخوض حرب الانصار في الشمال , وهذا المواطن كان في نهاية عقده الثالث وخريج جامعة) .
- صراعات أدارية داخل الحركة الانصارية وخاصة حول من يقود الحركة الانصارية وتوابعها من الافواج والسرايا , هل هو السياسي أم العسكري والتي القت بضلالها على الحركة الانصارية عامة ً.
- الصراع الفكري في قيادة الحزب مابين الذين مع الكفاح المسلح والذين ضده .
- الدول المحيطة بالحركة الانصارية والتي تعاديها وتعادي الحركة الكردية , (تركيا وأيران ) .
- بقيت حركة الانصار في مناطق محدودة نسبيا عدا بعض المناطق التي وصلتها في بعض العمليات, ولم ينجح شعارها في تعريق ( عرقنة ) الكفاح المسلح .
- تعين بعض الكوادر الغير كفؤة لقيادة العمل العسكري أو السياسي أو الاداري .
- تحويل مسؤولية الحركة الانصارية من القيادة المباشرة للجنة المركزية الى لجنة أقليم كردستان
- الحرب العراقية الايرانية وتأثيراتها على الحركة الانصارية وهي بين مصالح ذاتية لايران في المنطقة ومصالح الاحزاب الكردية والاستفادة من هذه الحرب ولو وقتياً .
- دور مخابرات النظام وعملائه في المنطقة واساليبه في الخداع والتضليل والمناورة وكذلك القوة الدعائية وتأثيرها على الجماهير .
- ضعف في الجانب التسليحي لقوات الانصار بشكل عام .
- العفو العام من قبل السلطة أثر على البعض من الانصار والملتحقين والهاربين من الجيش .
- كثرة العوائل في المقرات والمرضى وكبار السن وهذا بحد ذاته كانت عبئا على الحركة الانصارية والتي اخذت حيزا من جهد الانصار للحفاظ عليهم .
- لم تصل الحركة الى مستوى حركة ثورية عارمة تؤثر بشكل مباشر على عموم الجماهير في المنطقة وفي العراق ككل وذلك للاسباب التي ذكرتها .
- عدم فهم الاحزاب الكردية لتطلعاتها وطبيعتها الطبقية وسياساتها وتحالفاتها ومصالحها .
- عدم تطوير العلاقة بشكل كاف مع الجماهير الكردية .
- تجفيف منابع الحياة والصلة مع القرى والاهالي من خلال التهجير وغلق العيون والقصف اليومي الذي أدى الى ضعف في المعنويات خاصة لدى الجماهير التي كانت ترفد الحركة الانصارية والبيشمة ركة بكل مايحتاجون من أخبار أو أرزاق وتموين وأمور أخرى .
- نجاح السلطة – الى حد معين – في عزل الحركة عن الجماهير عبر اجراءات مختلفة , سياسة الارض المحروقة , تشكيل الافواج الخفيفة , قرارات العفو , الاجراءات الامنية , تسليح سكان العديد من القرى وكذلك ملاحقة عوائل الانصار .
ويتطرق تقيم حركة الانصار الى أسباب أخرى منها (أن الحركة الانصارية لحزبنا لم تستطع تجاوز الاساليب العسكرية المتوارثة تماما , وكذلك حرمان الانصار من فترات استراحة ضرورية لتجديد قواهم واكساب الحركة سمات التجنيد الالزامي بهذا الشكل أوذاك[3]) .
ربما هذه ليست كل الاسباب لفشل الحركة بصورة عامة , لاننا كحزب لم نخسر كل شيئ , بل خسرنا المعركة وهذه هي الحقيقة لان الحزب عاد بقوة بعد سقوط النظام الدكتاتوري وبرغم الظروف الحالية وفوضى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومخلفات الحروب لكن الحزب يعود من جديد ولو ببطء ولكنه بأتجاه الصعود , حيث يحتاج المواطن الامن والاستقرار وظروف حياتية أفضل لكي يستطيع أن يقرأ ويفكر ويختار من هو المؤهل في أن يلعب دور رئيسي في الساحة السياسية العراقية وبالتالي بناء الدولة الحديثة والتي تحتاج الصدق والصراحة والنزاهة و.... الخ .
ويشير التقرير السياسي الصادر عن الاجتماع الاعتيادي الكامل للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في أوائل أذار 1989 (الى جملة من الاسباب التي أدت الى الانتكاسة بشكل عام , منها حرب الابادة الشوفينية التي قام بها النظام ضد الشعب الكردي وحملة أبادة جماعية والتي تصاعدت منذ نيسان عام 1987 أضافة الى أستخدامها للاسلحة الكيمياوية والقنابل العنقودية ومنها قصف مدينة حلبجة في أذار 1988 , وكان النظام يسعى الى تركيع الشعب الكردي وسحق حركته القومية المسلحة وقوى المعارضة الوطنية ), ويشير التقرير الى جملة من النواقص الذاتية للحركة ككل والتي أدى الى فقدانها المواقع أضافة الى العوامل الموضوعية .
ومن هذه العوامل الذاتية –
- ( كان التنسيق بين القوى المسلحة للحركة الوطنية دون المستوى المطلوب.
- كانت بعض المفاهيم سائدة بخصوص التعويل على الحرب مع أيران لاسقاط النظام الدكتاتوري .
- كل حركة أنصارية لها نواقصها والتي تركت أثارها على العمل والمجابهة مع النظام [4] ) .
وبالفعل قام النظام بتصفية كل أثار للحياة في كردستان من خلال تهجير الاهالي والقرى المحيطة بمناطق عمل القوى الوطنية المسلحة , وأستطاع السيطرة على الطرق الرئيسية والاماكن المهمة في الاقضية والمدن .
وحول الحركة الانصارية يرى بيان اللجنة المركزية الصادر في أذار 1989 الى ( أنه أحد اشكال الكفاح المسلح الذي يمكن ان يتخذ صورا واشكالا عديدة , تبعا لطبيعة الوضع , وملاءمة هذا الاسلوب أو ذاك لتطوير نضال جماهير شعبنا من أجل السلام وانتزاع الديمقراطية وضمان الحقوق القومية للشعب الكردي[5])
ظروف الحزب
بعد الحملة الكبيرة لنظام صدام حسين وخروج أغلب القوى العراقية الديمقراطية واليسارية من ساحة النضال , وتأثير الظروف الخارجية على مجمل الاحزاب ومنها الاحزاب الشيوعية ومعالجة ذاتها من خلال ما أطلق عليه (البروسترويكا) أي أعادة البناء والتي أثرت بشكل كبير على أعضاء الحزب وأصدقائه , وتبنته بعض وسائل الاعلام العراقية وبما فيها الحزبية ( مجلة النهج مثالا- مجلة الاحزاب الشيوعية والعمالية في العالم العربي ورئيس تحريرها فخري كريم والتي تصدر من دمشق ) بدون أن تجد العوامل الملائمه مع ظروف هذه الدول الاخرى ومنها الاتحاد السوفيتي , وقد أقامت مجلة النهج بندواتها المتتالية ودعوة كبار المفكرين والمثقفين لتتبنى هذا الفكر والتغير الجديد [6].
وعلى ضوء هذه المتغيرات السياسية والايديولوجية والنضالية , وجد الحزب ظروفا غاية في الصعوبة في أيجاد حلول لوضع متأزم على جميع الاصعدة .
يشير الكاتب عزيز سباهي في كتابه الى ( بعد عام أي في أواخر أذار 1990 عادت اللجنة المركزية الى مناقشة أوضاع الحزب في ضوء البروستروكيا و ولكن بتفصيل اكبر هذه المرة , واعارت اهتماما اكبر للظاهرة ذاتها وتقدمت خطوة ابعد في طرح وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي فيما يجري وتقول في تقريرها أيضاً أن أقرار حزبنا بالظروف الموضوعية التاريخية لعملية التجديد وطابعها الشمولي الخلاق , ينطوي على وعي المخاطر التي تحيطها وتلازمها وتناقضاتها والعوامل التي تتحكم بمجراها وتكبحها او تغير وجهة جريانها مما يستلزم التأكيد على قيم الاشتراكية وأفضلياتها )[7] .
ويشير الاجتماع الى أن الحزب الشيوعي العراقي يحاول أن يتمثل جوهر التجديد واتجاهاته الرئيسية انطلاقا من واقعه الملموس و في معرض تجديد برنامجه ونظامه الداخلي وتدقيق سياساته بما يساعد في أبراز قيمة الاشتراكية ومضامينها الديمقراطية العميقة على أن يراعي ماهو جوهري في هذه العملية الموضوعية وما ينسجم مع الخصوصية الملموسة لبلادنا وحزبنا
واعتقد أن البيرسترويكا أثرت بشكل سلبي على مجمل الاحزاب الشيوعية في العالم وخاصة نحن في المنطقة العربية والعراق بالذات , حيث كثير من الاحزاب الشيوعية العربية غيرت أسمها بل أنحلت وتركت القضية التي ناضلت من أجلها عشرات السنين واصبحت هذه الاحزاب تمر في مرحلة قاسية جدا , خاصة أن أغلب الدول الاشتراكية قد تغيرت فيها النظم السياسية وجاءت حكومات جديدة موالية للغرب , وللاسف الشديد فان الانحدار الذي أنحدرت به هذه الاحزاب الحاكمة وبتحريك من عراب البيرسرويكا ( ميخائيل كرباجوف ) ادى الى حل هذه الاحزاب وبسرعة كبيرة .وكانت بالنسبة لنا صدمة قوية وكبيرة برغم أن الشيوعيين العراقيين من أكثر الشيوعيين الذين كانوا يتخوفون من هذه الاجراءأت السريعة والمحبطة في نتائجها .
وبالتالي عاش الحزب صراعات حادة وسط قيادته وكوادره خاصة وأن الحزب خرج من الكفاح المسلح مع القوى الاخرى والاحزاب الكردية بخسارة ساحة المعركة التي بقي فيها أكثر من عشرة سنوات , أضافة الى تأثيرات البرستروكيا على مجمل الاوضاع السياسية في العالم , وبالفعل أصبحت هناك أزمة حقيقية في قيادة الحزب , وقد غلب الجانب القومي لدى بعض الرفاق الاكراد وذلك بنشوء أو تطوير منظمة أقليم كردستان الى الحزب الشيوعي الكردستاني , وهذا ماجرى لاحقا .
ويشير كتاب عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ( تمثلت أزمة القيادة في جوانب سلبية عديدة في مقدمتها ضعف اليقضة والمبادرة والبيروقراطية والتسيب وافشاء الاسرار وخرق الانضباط الحزبي , وتعالت الشكوى من أن القيادة السياسية ليست في مستوى الاحداث , وانها غارقة في المركزية البيروقراطية وان الخلافات تسود المكتب السياسي في المواقف السياسية والفكرية , ودار حديث أيضا عن أن المتابعة ضعيفة وربما معدومة وبالنسبة للقرارات التي تتخذ , وأن أجتماعات المكتب السياسي ليست بالمستوى الذي يليق بهيئة خطيرة بهذا المستوى , في حزب ذي تجربة طويلة في العمل ...لم يعد خافيا أن العلاقات فيما بين أعضاء المكتب السياسي قد ساءت وأن الجفاء قد بلغ حد الطعون والشتائم بين بعض أعضائه [8] ) .
[1] نفس المصدر السابق ص 101 .
[2] عقود ج3 ص 216 .
[3] وثيقة تقيم الحركة الانصارية ص 100 .
[4] الثقافة الجديدة عدد 207 و208 ص 15 .
[5] نفس المصدر السابق ص 30.
[6] ابلغني احد قادة الحزب الحاليين , ان الحزب ليس كله مع هذه الافكاروذكر لي ( ولكنني أجد ومنذ تلك الفترة والكثيرون يعرفوني بأنني ضد هذه العملية , والتي كشفت دور كورباجوف منظر البرسترويكا قبل مجيئه الى الحكم والتي كشفته الايام والاعوام بحله للحزب الشيوعي السوفيتي ككل ويرجع البلاد في فوضى عارمة تنتشر فيه المافيات واللصوص والحكم الهزيل واصبح الاتحاد السوفيتي البلد المنافس بكل شيئ للغرب , دولة نامية ليس الا.
[7] عقود ج3 ص 255 .
[8] عقود ج3 ص 283 .