العبور / علي جاسم شبيب
تآلفنا والسلاح، وأصبحنا أصدقاء، لا يفارق أحدنا سلاحه.. يلمع هذا الغالي، بالحضن أو باليد أو متكئاً بالقرب.. ومات هاجس التوجس وعرفنا إننا في منطقة لا رجوع منها، برزخ من القدر الثابت، كأنه خيط من عبور رفيع، يهتز وعلينا إحكام أصابعنا عليه.. وكثرت ضحكاتنا واقتربنا من بعضنا أكثر وكان الرفيق النجفي حاضر النكتة مثل شكوكو المصري له ذاكرة مفتوحة تهبٌ منها الطرائف والأمثال والحكايات القصيرة.. وفي الضحى جاء صاحب الكوفية الحمراء، فتيقنت أنه من تجار العبور، يأخذون نسبة على كل رأس يعبر، كالماشية المغشوشة، بعيداً عن الكمارك، وقابلته بهدوء والزيد يتناثر من فمه ويلتفت إلى الدليل الطيب وأجساد الرفاق الرابضة وبيدها سلاحها.. قلت إننا لا نعرفك، اذهب وليأت أحداً من "ديرك" نعرفه، وأغلقت الحديث.. لما فتح باب البيت العريض كان الهواء يصفع براحتيه، شطوطاً مائية شاسعة ،تحت البيت الذي بدأ على مرتفع معلوم وكان الماء يلمع ويرتجف.
في مناطق الحقول المفتوحة، تغتسل الأرض والسماء بحمام واحد، هو شعاع الشمس الدافئ والريح الطرٌية مثل قبلات الوداع السريعة.. كنا نسمع أصوات الطيور وحفيف أجنحة القبرات والعصافير، فالكون يغرد ويبتسم، فبعد شرب شاي الظهيرة تفرقنا في ساحة البيت نتمشى ونصغي، حتى هسيس أحذيتنا على الرمل الرطب كانت وديعة..
.. قبل العصر سمعنا صوت تراكتور، ورأيناه يخترق الشطوط الغافية، ويشب مثل المعزى صوب الهضبة التي يرتفع عليها البيت. نزل رجل قصير القامة، مربوع الكتفين، يعتمر كوفية حمراء، إبتسامته تسبقه، ولما سلٌم علينا دون مصافحة أربدت سحنته وانهالت علينا الأوامر.. لكن كل شيء إصطدم ببرودة إستقبالنا وإتساع عيوننا الشامتة، إنحنى بالمسؤول العسكري وأعطاه التعليمات ثم قسمنا إلى فصيلين ووضع الرفيق أبو جنان في مقدمة الطابور وعلى كتفه القاذف الخطير (R.B.G) متهيئاً للدفاع، حيث أوهمنا بأن نكون في موضع الهجوم لا الدفاع ،عند مواجهتنا لمدرعات الأتراك، وأكد لنا بأننا سنمشي ساعتين ثم نلتقي بتراكتور يوصلنا قريباً من مقرات الحزب..
عبرنا النهر الأول على قطع من الصخور المرتبة مثل طريق طيور الحجل واتجهنا صوب الشجرة العملاقة ،وتقدمنا صوب فسحة القمر بين أشجار الغابة المتناثرة، ثم باتجاه الجبل.. كان المساء أحمر كطريق من أصيل يهتز، ويختفي وراء الصخور الرمادية.. كنت لا أملك الحق بالاعتراض أو النقاش لأن الأمر عسكرياً ولا يخصني، لقد سرق التراكتور اللعين عصب لساني وغادر عبر الشطوط.. الرفاق الشباب ينظرون إلى صمتي كأنه تواطؤ، واتجهنا وراء الرفيق أبو جنان والدليل الذي يتقدمه، ودخلنا ظلمة الأرض الغريبة، كنا نتوقف قليلاً، نلتقط أنفاسنا، وأصابنا عطش شديد. لم نحمل ماء والرفيق العسكري المسؤول كان متعجلاً ولم ننتبه إلى الماء حتى عندما خضنا فيه.. وانتبهنا إننا لا نحمل خبزاً.. لقد سحرنا العسكري بأوامره وشرحه السريع للطريق ،ثم الوصول إلى حضن الحزب بعد ساعات قليلة.. اشتعلت أرواحنا وانطلقنا عراة إلا من سلاحنا وحقائبنا الخاصة وحقائب الحزب التي رشقٌنا أجسادها.. لقد شربنا الماء من ترع راكدة، باردة.. وكان الرفيق الطبيب أبو فراس يعطي الرفاق حبات ضد العطش.. كان الوهم صديقنا في الطريق العجيبة.. صادقنا الوهم وجعلناه يمشي بيننا، يقنعنا حيناً ويسكتنا بصمت قنوع أحياناً أخرى.
أدركنا الفجر ونحن في الطريق، لم نجد تراكتورا ولا خيمة ولا شاخصاً يخفف توجسنا ،كنا مثل الذي إهتدى إلى درب وبقي يسير عليه دونما سؤال. لما توضح نور الفجر الرصاصي لم نر الأدلاء.. وعلى مبعدة رأينا برج الحراسة التركي، فقادنا الأصدقاء الأتراك واختفينا بين ثنايا الصخور في أخدود متعرج ينتهي بواد عميق جاف.
الرفاق الشباب لم يبتأسوا، كانوا مشدودي القامة، متهيئين لأي طارئ لكن العطش والجوع بان على الأجساد الرشيقة وتوضح باصفرار الوجوه وتيبس الشفاه.
تمددنا داخل الحفر الطويلة العميقة وانتشر الرفاق الثوريون الأتراك كحراس قساة، بعد فترة اقترب مني صديقي التركي، ذو العينين البراقتين وبيده زمزمية عسكرية يتلطلط على فوهتها ضوء الماء، فأيقظت الرفاق من خدر العطش، فأسقانا رشفات من الماء في هذا الأخدود القاحل، وعرفت بعد ذلك إن الصديق التركي كان يشفط الماء من بطن الصخور بشفتيه ويملأ بها الزمزمية ،وعند الضحى لاحت أغنام على سطح الجبل المقابل للوادي وانتظرنا أن تشبع وتتفرق حتى يظهر الراعي ،وأصابنا اليأس لكن الأصدقاء الأتراك يعرفون هذه المنطقة، وهي منطقة عملهم الحزبي بين الرعاة، كانوا يبتسمون ويربتون على كتف الزمن البطيء، وظهرت قامة الراعي الحاسرة، وتحركوعرف الاشارة عندهاا أقبل الراعي وإمرأة تحمل سلة عريضة مغطاة بقماش أبيض..
لما فاحت رائحة الخبز والجبن غادرنا الزمن الخائب في الوادي العميق الجاف وعند المساء توجهنا بصحبة الراعي إلى القرية التي لا حدود بين بيوتها وحظائر أغنامها وماعزها...