قسما بيومك والفرات الجاري             والثورة الحمراء والثوار

 

قبل ثمانين عاما، رأى الزعيم الوطني جعفر ابو التمن ان الحاجة الى الاصلاح المنشود يمر عبر هاتين نقطتين:

1 ـ أن نخلص في جهودنا لتوحيد صفوف أفراد الشعب وجمع كلمة أبناء البلاد للوصول إلى هذه الغاية، لأن إتباع الاختلاف والتنازع بين من تهمهم مصلحة البلاد من أبناء الشعب مما يستوجب الفشل ويذهب بالجهود سدىً.

2 ـ أن تتبادل الثقة بين الرجال القائمين بالإصلاح وأفراد الشعب، لأن فقدان الثقة يؤدي حتماً إلى انحلال القوى، وبفقدان الثقة يستحيل بذل الجهود لتوحيد الصفوف وتحقيق أماني الشعب.

بهذه الرؤية المتزنة استطاع ابو التمن ان يبرهن على عمق افكاره ورجاحة زعامته للحزب الوطني بما فيه من شخصيات ذي شأن على الصعد المعرفية والثقافية والاقتصادية.

لقد لعب ابو التمن دورا وطنيا مدروسا، فقد فارق قاطرة الطوائف والملل الى عراقيته كهوية رئيسية جامعة، وصار الحاجة للعراق الذي انهكه الاستعمار الانكليزي وانشغلت مصالحه بتمزيق النسيج المجتمعي وقتذاك.

الطريق الى عراقيته

لما اشتد غضب السلطات البريطانية على مناوئيها أثناء ثورة العشرين كان جعفر أبو التمن أحد أهدافها فقررت إلقاء القبض عليه وداهمت مسكنه الواقع في الزقاق المعروف باسم جده (دربونة داود) فتمكن من الهرب بتسلق سياج المسكن إلى مسكن جيرانه الخلفي، وهو مسكن عبد الهادي حبة واختفى فيها ليلة واحدة، ثم انتقل إلى مسكن محمد جواد الحلي ومنه إلى مسكن محمود الاطرقجي الذي لم يوافق على بقائه في مسكنه فهرب إلى مسكن صديقه مهدي الخياط الذي أخلى له الدار فمكث فيها قرابة الأسبوع ومن هنالك وضعت له خطة للهروب إلى منطقة الفرات الأوسط، وقد اشرف على الخطة وتنفيذها مجيد كنة، فقام بتهريبه بواسطة زورق انطلق من مشرعة "سيد سلطان علي" مع بدء ساعات حظر التجوال الليلي ليوم الخميس ١٩ أب ١٩٢٠، فوصل ساحل بستان مجيد كنة في منطقة الدورة بجانب الكرخ من بغداد، وبعد استراحة قصيرة غادر إلى مسكن الملا خضير شيخ الجبور، وقبل انبلاج الفجر غادر مضيف الشيخ يحف به ثلاثون فارساً من فتيان عشيرة الجبور مدججين بالسلاح من بنادق وسيوف متجهين على ظهور الخيل نحو مسكن شيخ عشيرة الغرير علوان الشلال ومنه اتجهوا إلى الجانب الأيمن من الفرات حيث مسكن عاصي العويض، شيخ عشيرة الجنابيين في منطقة جرف الصخر بقضاء المسيب ثم إلى كربلاء ومنها إلى النجف إذ كانت أحداث الثورة على أوّجها، وهكذا تم إنقاذه من الاعتقال.

الثورة الحمراء

يقول الجواهري في الجزء الاول من كتابه "ذكرياتي": لقد كان (ابو التمن) رجلا من بغداد ومن عائلة تجارية مشهورة، وقد مارس التجارة بنفسه، وتقلب بين امواج السياسة واجواء الزعامات الوطنية المألوفة، ومما جاء في قصيدتي عنه:

قسما بيومك والفرات الجاري              والثورة الحمراء والثوار

واذا كانت قصيدتي في جمال الدين الافغاني اكراما لعقل منور كبير ولثائر شجاع فان قصيدتي في ذكرى (ابو التمن) تستثير تساؤلات.

ان القارئ الان او بعد الان قد يستغرب عندما يكشف التاريخ اوراقه كلها عن الاحداث والاشخاص والمواقف قائلا ما علاقة الجواهري بفلان وفلان بحيث يستوجب ان يقول فيه ما لا يجب ان يقال من المغالاة في التكريم؟.

ولا ينطبق هذا على قصيدتي في (ابو التمن) لوحدها بل على اكثر من قصيدة كقصيدتي في (الوتري) و(كرامي) وغيرهما ولربما كان (ابو التمن) في اكثر من موقف من مواقفه مستحقا لشيء من ذلك التكريم طبعا، غير ان تكريمي يأتي قبل كل شيء وفي مثل هذه المناسبات مدخلا لاثارة الناس ولمجرد مشاركتهم آلامهم وعذاباتهم ولمجرد بغيتي في ان ينتفض المحكومون على الحاكمين.)

ويذكر الجواهري ايضا: وصلت الى الحفل الرهيب في ذكرى (ابو التمن) وفي الجملة من هذا الحفل وجوه عديدة شاخصة من الساسة الحاكمين يتقدمها وجه نوري السعيد.

جئته وكنت مشحونا بقصيدة فرجت بها عن نفسي وفرجتها بوجوه المعنيين بها في وقت واحد ومع ذلك فقد كنت احسب الحساب العسير لعواقبها.

وكانت القصيدة غضبا جامحا وتحديا عنيفا، ترى كيف تحملوا هذا الانفجار؟ كيف تحملوا صحفا وطنية ثلاثا او اربع تسابقت على نشرها وقد قلت فيه ما لم يقله موسى في فرعون:

خمس وعشرون انقضت وكأنها                       بشخوصها خبر من الاخبار

ضقنا بها ضيق السجين بقيده                         من فرط ما حملت من الاوزار

من كان يحسب ان يمد بعمره                          حكم اقيم على اساس هاري؟!

ومن الفظاعة ان تريد رعية                                          في ظل دستور لها وشعار

منا يطلب المأسور من يد اسر                         اسداء عارفة وفك اسار

 

ويضيف: ان (70) مقالة جارحة لا تعادل اثر قصيدة بمستوى (ابو التمن) او (هاشم الوتري) او غيرهما من قصائد الشعراء الثائرين كلهم في هذا البلد العربي او ذاك.

واذكر انني حين وصلت الى ...

قسما بيومك والفرات الجاري                          والثورة الحمراء والثوار

قامت قيامة الحاضرين رغم ان المجلس مجلس تأبين فقد خرج عن نطاق المألوف فكان الهتاف والتصفيق اثناءها والاشارة جلية فالقصيدة تعني المخضرمين والشائخين والمتفرعنين من رجال الحكم وكانوا في الطابق الاول من القاعة رؤساء ووزراء وساسة.

شاخ الشباب الطيبون وجددت                         فيها شبيبة شيخة اشرار

وبدا على وجه الحفيد وجده                                          للناظرين تقارب الاعمار

وقيل ان (نوري السعيد) انسحب وانا ألقي:

خمس وعشرون انقضت....

 

هذه هي شيوعيتي

أتهم ابو التمن بتأييده للشيوعية فرد على متهميه بالقول:

إذا كانت الشيوعية تسعى لترفيه الفقير ومساعدة المحتاج وتنظيم المجتمع بشكل مفيد أؤيدها، وهذه هي شيوعيتي.

خرج جعفر أبو التمن من تجربته في العمل السياسي بخيبة أمل بمعظم الأشخاص الذين عمل معهم فقد كانوا يريدون اتخاذ المبادئ سلماً للوصول إلى مآربهم الشخصية بينما كان هو رجل مبدأ يريد عن طريقه تحقق خدمة البلاد، وقد انتبه مبكرا لمواهب الرفيق الخالد (فهد).

نصب يخلده

تمرّ الذكرى الـ69 لرحيل الزعيم ابو التمن (1881 - 1945) وعراقنا يتطلع لاستقرار غائب منذ فترة طويلة، ولعل اعادة احياء رموزنا الوطنية بطريقة تليق بتأريخهم يجعلنا أوفياء لذكراهم وتضحياتهم. وبهذه المناسبة غير كثير ان يقام نصب شاهد، يخلد الزعيم الوطني "ابو التمن".