حاوره محمد المنصور
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن استقلال إقليم كردستان عن الدولة العراقية، وشاب العلاقة بين بغداد والإقليم نوعاً من التوتر والقلق، في الوقت الذي يعاني فيه السياسيون في الإقليم من الفرقة حول العديد من القضايا الخلافية، يضاف لها انعكاس تأثير الأزمة الاقتصادية والمالية على الشعب الكردستاني، والثقل الاقتصادي والاجتماعي الذي ألقت بضلاله أزمة النازحين من سهل نينوى على كاهل الإقليم، ناهيك عن مشاركة البيشمركة في القتال ضد داعش، والاستحقاقات التي ستترتب على مرحلة ما بعد داعش، هذه الأسئلة والأفكار، ناقشناها في حوار هادئ وصريح في أربيل مع المستشار الثقافي لرئيس وزراء إقليم كردستان العراق الأستاذ (زيرك كمال)، الذي أجاب مشكوراً على كل أسئلتنا بصراحة ووضوح.
ما هي آفاق العلاقة بين الإقليم وبغداد خصوصاً بعد زيارة وفد الإقليم الأخيرة إلى بغداد؟
مرت العلاقة بين أربيل وبغداد منذ عام (2003) بمراحل متعددة، وحين صوت الشعب العراقي بجميع أطيافه على الدستور الجديد، صوت الشعب الكردستاني عليه بأكثر من (70%)، لأن الدستور ينص على تحقيق الأهداف الوطنية والقومية لجميع المكونات والأقليات الأخرى في كردستان، وعند تطبيقه ظهرت المشاكل بين الإقليم وبغداد، وبين المكونات السياسية كافة في عموم العراق، وأصبح العراق اليوم دولة المليشيات بامتياز، وكل وزير في الحكومة ينفذ سياسة حزبه داخل الوزارة، ونحن نعتقد أن هناك حسن نية ورغبة لدى جميع الأطياف السياسية في العراق لتطبيق الدستور، ولكن تدخل الجوار الإقليمي في شؤون العراق الداخلية هو من يعرقل تطبيق الدستور، وإن قسماً من دول الخليج والشرق الأوسط يعملون على بناء العراق كما هم يريدون، وليس العراق الموجود في الدستور، أي كما يريده العراقيون.
هل لديكم رؤية واضحة عن الاستقلال، أم أن الحديث عنه للاستهلاك السياسي فقط كما يراه مراقبون؟
إن الاستقلال لجميع القوميات في العالم هو حق طبيعي مشروع، ومثبت هذا الحق في سياق قانوني للأمم المتحدة، وإن جميع الأحزاب الماركسية والتقدمية معترفة بهذا الحق ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي، ولكن تحقيق هذه الآمال يحتاج إلى العديد من المستلزمات الداخلية والخارجية، وعند إعلان الاستقلال، نحتاج إلى دعم ليس فقط من الدول العظمى والأمم المتحدة، وإنما من الدول الإقليمية أيضاً مثل: (إيران، تركيا، سوريا، ودول الخليج)، والآن تطرح القيادة السياسية لإقليم كردستان هذا الحق على الدول الإقليمية وتقول لهم: "نحن نعد أنفسنا الآن ونخطط ونعمل من أجل الاستقلال"، وبهذه الطريقة سنتوصل إلى تفاهمات مع الحكومة الاتحادية في بغداد وتركيا وإيران والدول العظمى، ونحن نعتقد أن المواقف الإقليمية والدولية من الاستقلال بدأت تنضج، وإن البناء الديمقراطي في كردستان العراق يحتاج إلى فترة زمنية، وهو لحد الآن ما زال في منتصف الطريق، وإن الديمقراطية ليست بالانتخابات وتشكيل الحكومة فقط، بل بتغيير العلاقات السياسية والاجتماعية والعلاقة بين الحكومة والشعب، وفي كردستان نحتاج إلى التهيئة المجتمعية وإلى تعميق الديمقراطية والتعايش السلمي بين المكونات.
متى يحسم الصراع السياسي بين الأحزاب الكبيرة حول رئاسة الإقليم؟
نحن نأمل بأن تحل جميع الخلافات بين الأحزاب عن طريق الحوار، ولا أحد يرغب بأن تسير الظروف السياسية خلافاً لذلك، وكلنا يعلم بأن تحقيق الديمقراطية لا يتعلق بالمؤسسات الحكومية فقط، وإنما يتعلق أيضاً بالوعي السياسي للمجتمع والأفراد، ونحن نعتقد أن العلاقة بين الأحزاب السياسية في كردستان العراق الآن، أفضل مما كانت عليه في بداية الانتفاضة عام (1991)، وفي أواسط التسعينات من القرن الماضي أثناء الحرب الداخلية، وإن جميع الأحزاب في برامجها وأنظمتها الداخلية وخطابها السياسي مؤمنة بالديمقراطية، وكلها تتحدث عن التعايش السلمي واللجوء إلى الحوار في حل النزاعات السياسية، ولكن ما يجري على أرض الواقع هو عكس هذه الأطروحات، ونحن متفائلون بأن الديمقراطية في كردستان العراق ستتطور مع مرور الوقت لأنها الأمل والهدف بالنسبة لنا.
أما طال الأمد بتعليق البرلمان الكردستاني وإبعاد رئاسة البرلمان عن العمل؟
كما تعلمون أن هناك فعل وردة فعل، وإن ما جرى في كردستان من الحرب الداخلية وعدم التعايش بين عدد من الأحزاب السياسية وتعطيل البرلمان، هو نتيجة لعدم نضوج الوعي السياسي لدى جميع القوى وليس لدى جهة معينة دون أخرى، ولهذا السبب فإنه قبل أكثر من خمس سنوات كانت الديمقراطية قد وصلت إلى مرحلة جيدة، ولكنها تراجعت فيما بعد، حيث كان بإمكان أي إنسان في كردستان العراق، يشعر بأنه مظلوم ولديه حق يطالب فيه، أن لا يأخذ حقه بيده كما يعتقد البعض، بل يذهب إلى المحكمة ويسجل دعوة ضد من يشاء من المسؤولين حتى لو كان ضد: (مام جلال، كاك مسعود، كاك نتشروان، وكاك برهم)، وفعلاً ذهب وقتها العديد من كبار السياسيين إلى السجون، وقد خلق لاحقاً توتر العلاقات الحادة بين الأحزاب السياسية، تأثيراً سلبياً على تراجع الحوار والتعايش السلمي بينها، وانعكاساتها السلبية على المواطنين في كافة المجالات.
ما هي آفاق العلاقة مع القوى السياسية الكردية وخصوصاً مع حركة التغيير (كوران)؟ وكيف سيكون شكل الحكومة السياسي في حالة الاتفاق مع هذه القوى؟
حركة التغيير (كوران) هي جزء من الحركة التحررية الكردستانية، وهي جزء من العملية السياسية القائمة في كردستان الآن، ولديها موقع قوي في البرلمان وتحظى بتأييد جماهيري واسع، ولكنها لم تستطع أن تطرح أنموذجاً سياسياً جديداً، لكي تؤثر فيه على فضاء الرأي العام، ففي العديد من المجالات كانت الحركة تعتمد التكرار السياسي، أي أن الإطار والمفهوم الحزبي الذي تعمل به ليس جديداً، بل هو ما اعتمدته وطرحته وكررته الأحزاب السياسية قبلها أيضاً، لكنه في نفس الوقت استطاعت (كوران) التأثير نسبياً في المشهد السياسي، وخلقت الضغط على الحكومة لكشف عدد من الملفات، وشاركت الحركة في الانتخابات الكردستانية السابقة وحصلت على (25) مقعداً في البرلمان، وقد قبلت الأحزاب الكبيرة (الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني) بهذه النتيجة، والقبول بنتائج الانتخابات هو أحد أهم أركان الديمقراطية، إن الحوار بين الحزبين الكبيرين مستمر ولدى الحزبين قناعة في الحوار مع التغيير ومع الأحزاب الأخرى، ولا أدري كيف سيكون شكل التعديل الحكومي، ولكني أدعو جميع الأطراف إلى الالتزام بمبادئ الديمقراطية والتعايش السلمي، لأن أحدى آليات بقاء الإقليم وتطوره ومستقبله هو تمسكه بالديمقراطية، هناك عقلية سائدة في الشرق الأوسط تقول: (إذا كانت لدينا مصالح مشتركة مع الغرب نحن سننتصر)، قد يكون في هذا القول شيء من الصحة، ولكن من الضروري أن تكون لدينا قيم مشتركة مع الشعوب الغربية، إذا نريد أن نبرهن لأنفسنا وللآخرين بأننا شعب حي ونحتاج إلى الاستقلال، فمن الضروري وقبل كل شيء أن نلتزم بالديمقراطية الداخلية.
متى ستحل الأزمة المالية والاقتصادية في عموم العراق وخصوصاً في إقليم كردستان؟ وكيف تنظرون إلى الاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بدفع الرواتب في الإقليم؟ وإلى أي مدى ستصل التقليصات الكبيرة في الخدمات العامة؟
إن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية والمالية في بغداد والإقليم هو العامل الخارجي، الذي خلق مشكلة العقود النفطية بين الإقليم وبغداد، وكذلك علاقة إقليم كردستان مع الدول الإقليمية، ومن ثم انخفاض أسعار النفط على المستوى العالمي، الذي أدى، ليس فقط إلى خلق المشاكل الاقتصادية للدول الإقليمية والدول النفطية فحسب، وإنما لحدوث انهيار اقتصادي في بعض الدول الأخرى، وقد تأثرت بذلك روسيا وإيران أيضاً، ومن الأسباب الأخرى لتأثير الأزمة على بغداد والإقليم والعديد من دول الشرق الأوسط، هو عدم وجود الدولة المؤسساتية التي يبنى على أساسها نظام الحكم، كما هو نظام المؤسسات الموجود في الدول الغربية، كنموذج مدني مؤسساتي ناجح في جميع المجالات.
إن حكومة الإقليم الآن في بداية الطريق لحل هذه المشاكل العقدية، وقد شكلت العديد من اللجان الاختصاصية على المستوى الرئاسي والسياسي والاقتصادي وفي المجالات الأخرى، ولكن نجاح هذه المحاولات لإنقاذ الشعب الكردستاني من هذه الأزمة الاقتصادية، مرهون بالتغيير الاقتصادي على المستوى العالمي، وليس فقط على المستوى الإقليمي، وإن حكومة الإقليم ورئيسها يشعرون بخطورة هذه الأزمة على المستوى المعيشي والسياسي، ومدى تراجع البنى التحتية والخدمية في العديد من المجالات، وقد بدأت الآن بوادر التأثير الإيجابي، لكننا نحتاج إلى المزيد من العمل وتكثيف الجهود، لأن إنقاذ الوضع السياسي والاقتصادي في هذه المرحلة الحرجة، يحتاج إلى الصبر والدراسة العلمية والفلسفية، التي تجيب على هذه الأزمة عن طريق معرفي ومنطقي، وليس عن طريق ردة الفعل.
إن أكثرية الاحتجاجات والمظاهرات التي جرت في كردستان العراق في السنوات الماضية والتي ما زالت مستمرة، يغلب عليها الطابع الديمقراطي المدني المتحضر، وقد تعاملت معها الحكومة على أساس سلمي وديمقراطي، بالرغم من حدوث بعض التجاوزات المؤسفة في بعض المناطق من صدامات وعنف غير مبرر، ونحن نعتقد بأن جميع هذه المطالبات والاحتجاجات والمظاهرات السليمة، هي دليل على نضوج الوعي السياسي والديمقراطي لدى الشعب الكردستاني، وللموظفين الذين تظاهروا في الآونة الأخيرة، كل الحق بمطالبة الحكومة بدفع رواتبهم المتأخرة لأشهر عديدة، وعلى الحكومة أن تستجيب لهم وتنفذ مطالبهم وتدفع رواتبهم، وتتعامل معهم على أسس سلمية وديمقراطية.
ما هي الحلول المطروحة لحل أزمة النازحين من سهل نينوى، التي شكلت ثقلاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً على كاهل الإقليم؟
من الضروري إيجاد الحلول الناجعة لأزمة النازحين، وقبل ذلك تأمين السكن اللائق وتوفير المستلزمات الضرورية لهم، وتأمين حقهم في الرعاية الصحية والاجتماعية وتوفير فرص التعليم لأطفالهم، ولا تقوى الحكومة في الإقليم على توفير كل هذه الاحتياجات، ومن واجب الحكومة الاتحادية القيام بواجبها إزاء أبناء شعبها من النازحين، وأن تفتح المراكز لإيوائهم ليس فقط في المدن الكبرى، وإنما في كل القرى والقصبات وفي جميع المناطق في كردستان التي يتواجد فيها النازحون، وإن ما تقدمه الحكومة المركزية في بغداد للنازحين، حتى اليوم، هو ليس بالمستوى المطلوب إطلاقاً، ودائماً ما يستعرض بعض المسؤولين من وزارة الهجرة والمهجرين والوفود المرافقة لهم، أنفسهم أمام عدسات الكاميرات وشاشات الفضائيات في زياراتهم لمخيمات النازحين، ويعودون أدراجهم بخفي حنين من حيث أتوا، وتبقى معاناة النازحين مستمرة، ويبقى المسؤول الأول والأخير عن معاناتهم هي الحكومة الاتحادية في بغداد.
ما هو الدور المنتظر لقوات البيشمركة بعد مشاركتها في عملية تحرير سهل نينوى؟
إن البيشمركة من الناحية القانونية هي ضمن إطار منظومة وزارة الدفاع والقوات المسلحة العراقية، ولكن حكومة بغداد تخلت عنها ولم تدعمها لوجستياً، بل العكس وضعت العراقيل أمامها وخلقت لها المشاكل، وما زلنا نسمع التصريحات الطائفية من بغداد، التي تطالب بخروج البيشمركة من المناطق العربية، عن أي مناطق عربية أو كردية يتحدثون، ويطالبون بالخروج منها، وداعش ما زالت موجودة فيها والمعركة مستمرة، وقد أصبح من الضروري أن تجلس الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، إلى طاولة المفاوضات لحل هذه المشكلة عن طريق الحوار، ويبقى دور البيشمركة المشرف وتضحياتها الجسام في محاربة داعش إلى جانب القوات العراقية، محط فخر واعتزاز وتقدير من قبل الشعب الكردستاني والشعب العراقي وشعوب العالم المحبة للسلام.
ما هو مستوى العلاقة بينكم وبين تركيا من ناحية، وبينكم وبين إيران من ناحية أخرى، وما هي أبعاد علاقتكم مع دول الخليج العربي؟
إن العلاقة بين تركيا وإيران هي علاقة طبيعية جداً، وإن إقليم كردستان ملتزم بالسياق القانوني للأمم المتحدة، الذي ينظم العلاقة بين الأقاليم والدول المجاورة، ويراعي المصالح المشتركة بين هذه الأطراف، ولهذه اللحظة لم يخلق إقليم كردستان أية مشكلة للبلدان المجاورة، بل يؤكد الإقليم دائماً على التعايش السلمي بينه وبين هذه البلدان وعلى احترام القانون الدولي والسيطرة على إرادة الحرب، ومن حق الإقليم أن يتعامل مع من يريد من الدول على أساس المصالح المشتركة، وهذا ينسحب على العلاقة مع دول الخليج العربي، التي تستطيع أن تخلق المشاكل لإقليم كردستان وللعراق عموماً، وتستطيع في نفس الوقت أن تدعم العراق والإقليم في المجال الاقتصادي، وإن البرامج السياسية لهذه الدول حول العراق وإقليم كردستان متعلقة بالصراع الطائفي في العراق، وهناك احتمال أن تشارك روسيا وأمريكا في هذا الصراع لاحقاً، لأن حرب الوكالات كما هي في سوريا ولبنان واليمن لم تنتهي بعد، وبما أن إيران دخلت بقوة في عمق الشرق الأوسط، فإن دول الخليج تحاول أن توقف هذا المد الإيراني بكل الوسائل، وأصبح أقوى صراع في المنطقة اليوم بين المعسكر الإيراني والمعسكر الخليجي، وكلا المعسكرين يستخدم كافة الوسائل المتاحة المشروعة وغير المشروعة.
كيف تنظرون إلى العراق عموماً والإقليم خصوصاً في مرحلة ما بعد داعش؟
ستنتهي داعش عسكرياً وربما تنظيمياً في القريب المنظور، ولكنها ستبقى فكرياً وثقافياً في عقول البعض من الناس، وتقع علينا جميعاً مسؤولية اجتثاث هذا الفكر المتطرف من جذوره، وأتمنى على الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، والأحزاب السياسية وجميع مكونات الشعب العراقي، أن يخططوا لمرحلة ما بعد داعش، وإن تكون مرحلة جديدة على جميع المستويات والمقاييس، وأن يسعوا لبناء العراق الجديد، وتقوية أسس الديمقراطية وإشاعة ثقافة التعيش السلمي.