اللوحة في مواجهة العسف / نجم خطاوي                             

معرض الفنان ياسين عزيز

خفيف الظل وغير متصنع وبسيط في شفافية روحه وكلماته, وأحيانا تراه جنبك ومعك ويتطلع اليك ولكن في قسمات وجهه وحزن عينيه عوالم أخرى, ربما تكون ذكرياته وندب الأيام والمصائب التي مرت في شريط أيامه, أو ربما ملامح وقسمات  وبدايات لوحة يفكر في انضاج أطارها الروحي والذهني قبل أن يشرع في جمع أصباغه وفرشاته ويكمل غرس شجرته اللوحة.

من مواليد حي الحرية الشعبي في بغداد 1963, وربما يكون من سوء طالعه أن يكون قد ولد في هذه السنة التي أرخت لتاريخ القتل والدم ومجيء أنظمة البطش, اذ بطشت سياط الجلادين وقسوتهم بأهله وأبناء جلدته من الكرد الفيليين العراقيين, ليتم تهجيره وعائلته عام 1979 قسرا من العراق الى ايران وبحجة التبعية, ولم يكن يبلغ السادسة عشر من العمر يومها. لا زال يتذكر كطفل صغير تلك النخلة أم الثلاثة رؤوس المنتصبة في حيهم الشعبي ويتخيل كيف يمكن له أن يرسمها على الورق.

ألوان حدائق الجيران واشجار الرارنج والبرتقال والياسمين والمتسلق والقداح ورائحة حديقة البيت وأشجارها وورودها كانت اناء الماء الذي اغترف منه المعين الذي منحه القدرة على التخيل والابداع في عالم اللوحة والرسم.  كان صبيا صغيرا يوم استهوته حديقة البيت بألوان أشجارها وأرض الحديقة التي بدأ اللعب بطينها بكفيه و يتخيل ويصنع تماثيلا من هداية روحه ومخيلته ومهارة أصابعه.

في درس الرسم ولم يبلغ العاشرة من عمره كان الموضوع أن يرسم التلاميذ منظرا طبيعيا, لكن ياسين رسم بدلا عن ذلك وجها لإنسان, ولم يستغرب المعلم  لذلك بل فطن لموهبة التلاميذ, وكان ذلك المعلم الأول الذي فطن لموهبة الفنان وشجعه في المضي في عالم الفن. سنوات التهجير والعيش بعيدا عن الوطن العراق لم تثن الشاب الفنان ياسين من أن يخط دربه في فضاء الابداع والتشكيل, اذ واصل مشواره بدراسة الفن في في جامعة الفنون في مدينة طهران, وليكملها بعد خمس سنوات وينال شهادة جامعية في الفن.

في ايام الدراسة في جامعة الفن في طهران يتعرف الفنان ياسين على المدارس الفنية والاتجاهات المختلفة في الرسم, ويستهويه أكثر دراسة تاريخ الفن العراقي وتأثير حضارة وادي الرافدين في العراق على تشكل وتكوين فن التشكيل وتفرعاته, ولا زال يتذكر حديث استاذه في الفن هناك والذي اخبرهم بان الفن في العراق قد سبق اوروبا في موضوع التجريد تاريخيا والابتعاد عن الحدود المؤطرة لموضوع التجسيم والابعاد المحددة, وبحكم الظروف البيئية والاجتماعية التي أطرت حياة المجتمع في العراق والمنطقة.

في ايران واصل الفنان ياسين اهتمامه بالرسم والمشاركة في المعارض الفنية والمسابقات, وقد حصل الجائزة في في بينالي اقيم في طهران عام 1990.

في عام 1993 حط رحاله لاجئا في بلد السويد موطنا جديدا له, وفي هذا البلد بدأت رحلة جديدة في البحث والاكتشاف والاطلاع على منجزات الفن في اسكندنافيا وما وصلت اليه مودات وتقليعات الفن, ورغم امتداد فترة ابتعاده عن جذوره الاولى, فانه يظل مشدودا لتلك البدايات التي رسمت ملامح تكونه ونضوجه الفني.

زمن خلق اللوحة يطول ويقصر في حساباته, ويبدأ من بصيص وهج يعذبه في وسط الروح والخيال, ويكتمل لاحقا حين يشرع بجمع فرشاته وأصباغه ويبدأ ضرباته الأولى على القماش, ومن هذه اللحظات تبتدأ علاقة القرب والود مع ألوانه التي تبهره وتسحره وتجعله متيما بها, ثم ليودعها برهة ولو لحين وهي على جدار المعرض مانحا لها فرصة اخرى لكي تمنح الناس متعة المشاهدة والخيال.

معرضه الذي يقيمه يوم السبت القادم 25/10/2014 في ستوكهولم/منطقة سلوسن الثقافية القريبة من البحر وفي موقع المركز الثقافي العراقي في السويد وبرعايته, هو المعرض الشخصي الخامس له بعد معارض مختلفة أقامها في مدينتي ستوكهولم و مالمو.

" كولوه ني" أو عصابة الرأس, هو اسم معرضه, وقد استوحى الاسم  من العصابة السوداء ذات الكراكيش البيضاء المدورة, والتي تلبسها الصبايا الفيليات أيام الأفراح, وربما سيلمس مشاهد المعرض تأثيرات أجواء البيئة والدمار والعسف الذي واجهه الفنان ياسين  منذ أيام فتوته وشبابه وتفاصيل اقتلاعه من وطنه العراق, مرورا بالذي يجري اليوم من استمرار للقتل والابعاد والتهجير والنزوح وتحت مسميات مختلفة.

يعرض الفنان ياسين في معرضه عشرين عملا لم يتوكأ فيها على مدرسة فنية محددة بل كان امينا لمخيلته وذاكرته لاما في بودقة روحه جمعا من تفاصيل خبره وتجاربه وقدرته في خلق التناسق اللوني والتناغم بين عنف الفكرة ومفردات الصراخ فيها سوية مع الدقة والحرفية العالية في التعامل مع أدق تفاصيل وأسرار التشكيل.

انه يصرخ بكل ما يستجمعه من قوة وحلم وامنيات شاجبا ورافضا لكل الذين يرغبون في تشويه الحياة وبرقعتها بقبيح افعالهم عبر الارهاب والقتل واقتلاع الناس من مدنهم وقراهم وتركهم في مصائر مجهولة.... ويقول كفى كفى كفى !!!