رجل الايام الصعبة (ماموستا كوجر) / المشهد الاول
منذ نهاية الستينات واوائل السبعينات، بالرغم من ان (الاستاذ ناصح) كان شابا في مقتبل العمر، لكنه كان اسما بارزا في تنظيمات (حشع) وفي اربيل بشكل عام، في كل ندوة وتجمع كان له مكانا بارزا فيه. في عام 1970 بالضبط بعد اتفاقية اذار عندما دخل البيشمركه الى المدينة ، وبدأت الحفلات والافراح ، فكم حفل زفاف في اربيل اقيم في الغالب كان الهدف منها اقامة كرنفالات كبيرة من قبل الاحزاب لاخراج جماهيرهم، وخاصة (حشع) كم من الحفلات نظم واحدة من تلك الحفلات كانت زفاف (احمد كريم) في محلة (بلاشاوه) الاسكان حاليا، استطيع ان اقول ان الناس تجمعوا بشكل بحيث كان صادما لباقي الاحزاب، لكثرة عدد الحضور من جهة ولحسن تنظيم وضبط مجريات الحفلة من ناحية ثانية.
بالرغم من كوني طفلا في ذلك الوقت، لكنني لازلت اتذكر جيدا ، ان اغلب الشيوعيين شاركوا في هذه الحفلة ، حيث ان الحفلات في ذلك الوقت كانت تبدأ قبل يوم من موعدها، وتنتهي في عصر اليوم التالي، في عمري الصغير ذاك جذب انتباهي بعض الاشياء لاتزال باقية في بالي، احد تلك الاشياء كان اسم (الاستاذ ناصح) منذ يوم الخميس طرق هذا الاسم مسامعي، ويبدو ان احد الوجوه البارزة في الحفل كانوا يساءلون بعضهم قائلين (الاستاذ ناصح) غير موجود، بدا لي غريبا ، من يكون هذا (الاستاذ ناصح) وكيف سيكون؟ حتى الصباح كان هذا السؤال في خيالي.
صباح يوم الجمعة، كان الناس يتقاطرون والضيوف يأتون، الى حد ان المكان بات مزدحما، بشكل لم اره قبل ذلك ابدا، بدأت الدبكات والموسيقى والطبل والزرنة، وكما يقال اختلط الحابل بالنابل ، وقطع القماش الحمراء اصبحت بايدي راقصي الدبكة تملأ المكان وكأنها قطعة واحدة، (والشوباش) الذي كان يعمل باسم الشيوعيين البارزين الذين ينادى باسماءهم، والنقود التي كانت تجمع من قبل الذي ينادي بالشوباش اصبحت كبيرة بشكل مدهش مما يعني ان قيمة هذه الحفلة كبيرة جدا مما ينعكس على صاحب الحفلة والناس الذين ينادى باسمهم ايضا.
وبقي يالسؤال عن الاستاذ ناصح قائما، الى حد ان (احمد كريم) بعصبية وكان باديا عليه التشوش، وهو ينتقل جيئة وذهابا، كان غاضبا جدا من تأخر(الاستاذ)، كنت متشوقا جدا لقدوم هذا الضيف لاراه، فيبدو انه محل اهتمام الجميع، في هذه الاثناء احد الحاضرين اشار بيده الى الخلاء الذي بين محلتنا ومحلة سيداوه، الذي هو بالضبط حاليا مقر رابطة الاتحاد الاسلامي وقال( اها ..ها هو الافندي قد اتى).
استطيع ان اقول انني قد لمحته قبل الكل، لكنه لم يكن افنديا كما وصفوه، وكما يفعل الاطفال ركضت نحوه الى ان اقتربت منه ونظرت اليه بتمعن ودققت بهذا الشخص الذي كان يجري الحديث عنه منذ البارحة، وكانوا جميعا مشغولين به، لحد الان لاتزال صورته في ذهني، (شاب متوسط القامة يرتدي كورتك وشروال خاكي من طراز مرادخاني جديد، يبدو انه يرتديه لاول مرة، وعندما نظرت الى وجهه شعرت انه قد خرج للتو من تحت يد الحلاق، كان يسير بخطوات هادئة ، ولاني كنت بشوق لرؤيته، صرت اتابعه خطوة بخطوة بدون ان ارفع نظري عنه، عندها احس باهتمامي به وسألني، (ما اسمك ايها الصغير)اجبته فقال لي (مااسم ابيك؟) عندما قلت له اني ابن فلان،رأسا اتى وقبلني ، يبدو انه يعرف ابي، وكطفل (الاستاذ ناصح) يعرف ابي ايضا!!! يبدو انه شخص مهم جدا.
وصل عند الجموع والقى السلام (احمد كريم) بدون ان يجبه قال بصوت عالي (ايها الرجل الطيب، اين انت؟منذ البارحة وقد اخفيت نفسك، نحتاجك بمئة مهمة)، هذا ايضا كان لي مهم جدا، رجل يحتاجونه بمئة مهمة!!! اجاب بطريقة احسست بانه يريد ان لا تعرف الناس لماذا تأخر، قال بصوت منخفض هادئ قال (اخي العزيز ثقوا منذ البارحة كنت مشغولا بابلاغ الاصدقاء كي يكونوا حاضرين اليوم جميعا) يبدو انه كان منشغلا بتجميع اكبر عدد من الاصدقاء لابراز ماتحدثت عنه سابقا، وبعد مدة طويلة فهمت معنى التظاهر، وعرفت من هم هؤلاء الاصدقاء، الذين سعى اليهم الاستاذ ناصح. هذا اليوم كله كانت عيني لا تفارقه، كي اعرف (رجل المئة مهمة) كيف وباي طريقة سيدير المئة مهمة، رأيت امام عيني باي حماس يذهب ويجئ ، وكيف يديراشغال هذه الحفلة، وكيف يرحب بالحضور، وكيف يلبي طلبات الضيوف ، واغلب الضيوف يعرفونه!! (حتى كم مرة صاحوا شوباش باسمه) وكان يبدو كأنه شخص قريب وصاحب الحفل ، ومهتم بتنظيم الحفل، هذا كان غريبا جدا لي، فهو ليس من اقاربنا، ولم اره ابدا في اي من بيوتنا!!! فلم هو مهتم بهذا القدر بسير الحفل والدبكة؟؟ بقي حتى المساء وشارك في توديع الضيوف ايضا، و لاحظته لعدة مرات ، يتحدث بعيدا عن الناس على حدة مع الضيوف ، وكأنه يكلفهم بواجب او يتكلم معهم بشئ مهم، انا الطفل كم اردت ان اعرف عن ماذا كان يتحدث لهم، او اي مهمة يكلفهم بها، لان بعض هؤلاء الذين كان يتحدث اليهم، كانوا يدورون حول الدبكة ، او كانوا يقفون بعيدا عن الدبكة، وفي وقت تقديم الطعام ايضا كانوا في خدمة الضيوف.
بعد يوم او يومين كنت اسمع من اقاربي انهم يقولون بالحقيقة ان الاستاذ ناصح كان له دور بارز ، بادارة وتنظيم الحفلة، وكل مرة كان يجري الحديث فيهاعن الحفلة، يجري الحديث عن دور (رجل المئة مهمة)، الذي اصبح عندي موضع تساؤل ، لماذا هذا الشخص قد اتعب نفسه كل هذا التعب، في الوقت الذي هو لا اخ ولا ابن عم ولا اقارب العريس، والذي عادة في حفلات الزواج هؤلاء هم الذين يخدمون ويكونون بارزين، بعد فترة طويلة علمت ، نعم، ان الاستاذ ناصح كادر نشط من كوادر الحزب، وقد كُلف بهذه المهمة، وقد قام بها باخلاص تام وبتفاني، يقوم بواجبه، لكي يقنع المحب والمبغض (نحن الشيوعيون) لسنا فقط في العمل الحزبي والانضباط نموذجيين، بل بالشأن الاجتماعي ايضا طليعيين ويجب على الاخرين ان يتطلعوا الينا.
السنة مرت واتت، واسم الاستاذ ناصح يطرق مسامعي اكثر ، وفي السبعينات اصبح هذا الاسم نجما متألقا في مدينة اربيل، الى ان وصل الحال عند توقيع (الجبهة مع البعث) ظهر اسم الاستاذ ناصح في قائمة الاشخاص الناشطين والمكشوفين ل (حشع) والذين تقرر تصفيتهم من قبل حزب مناهض للجبهة، ووضعت جائزة ثمينة مقابل راس كل شخص من هؤلاء الذين ادرجت اسمائهم في القائمة ، لكن يبدو انه بذكاءه وشجاعته خرج منها سالما، في النصف الثاني من السبعينات اسم الاستاذ زاد لمعانا وبريقا، حتى حلّ ارهاب البعثيين في نهاية عام (1978) وبداية عام (1979) الذي جرى على كل تنظيمات حشع في عموم العراق وكردستان وتنظيم اربيل ايضا نال نصيبه من هذا الارهاب العام والذي ادى الى زعزعة التنظيم، وجعل بعض من الكوادر يختفون وخصوصا القيادة بشكل عام هربوا الى الخارج فقط من اجل انقاذ انفسهم وتركوا كامل التنظيم تحت يد البعثيين، فالقي القبض على الكثيرين و( اخذت منهم اعترافات ،وبراءات)، قليل من الناس صمدوا ولم يضعوا انفسهم بيد العدو، وكان بقاءهم بشكل اختفاء ، وبعضهم اتجهوا الى خارج المدينة ، وحصلوا على سلاح، وبجهودهم الخاصة شكلوا اول المفارز...الخ
يتبع