"نيف ساعت...يوم إختفى.. / علي بداي
1 - في ذكرى رفاق الدرب العسير الذين رافقوني بإتجاه كلي كوماته ربيع 1980: الشهيد البطل خليل ( خالد جسام) الذي قاوم الأوغاد حتى الرمق الأخير في ديالى، أبو إدراك ( أحمد لعيبي) ، أبو آذار (عقيل هاشم ) قائد المجموعة، و أبو عبود ( زيدون صبري).
"حين التقيت بابي إدراك " أحمد لعيبي" في براغ عام 1990 سألني: بعد كل هذه السنين والمواقع، والوقائع ، والمواجع مازلت لا أعلم من أوحى لك بفكرة الخروج ليلاً للبحث في الجبال عن دليلنا الضائع ؟ قلت: لا أدري ..هو جنون ولكل منا جنونه".
1مطاردة غزلان الجبل
بعد أقل من عام على خروجي العسير من العراق قررت أن أعود اليه سراً لأنتزعه مع غيري من مخالب صدام، أو هكذا خُيّل اليّ. كنت مهشماً، بعد رحلة حبس وفصل من الكلية ومرض ومطاردة مضنية وقرار إعدام بقي يطاردني حتى في نومي تبعتها دورة تدريب قاسية لم تتح لي فرصة إلتقاط أنفاسي لكن إغراء أن أرى موقعي وقد تبدل كان أقوى من كل شئ. أنا من الآن سوف لن أكون أعزلاً. أنا الذي طالما صرخ ضابط الأمن "محمود التكريتي " بوجهه: من انت لكي ترفض تأييد البعث؟ أريد أن أغرس فوهة مسدسي في صدغه وأصرخ بوجهه: من أنت لكي توجه الأوامر لي؟ تلك كانت ببساطة فكرتي عن الكفاح المسلح: أن أقتص من أوغاد أعرفهم . كل ما يعوزني الآن هو السلاح...كنت طوال حياتي أقدس روح الحشرة فلا أسحقها حين تدب بين أوراق كتابي وأمنحها حريتها في ان تمارس لهوها في الهواء الطلق، الآن لا أرى في إلغاء وجود محمود التكريتي ولا إبراهيم اللامي أي إثم.
بمجرد مغادرتنا آخر بيت في أطراف "القامشلي" إختفت ألسنتنا وعدنا الى بدايات الحياة قبل أن يتعلم آدم اللغة. كنا نتفاهم عن طريق إشارات وتراكيب لغوية لايجمعها مع بعضها نحو ولا رابط . نعدو خلف الدليل كمشدودين بخيط خفي، يهبط نهبط خلفه، يقف نقف وراءه. أقدامنا الآن تتجه لإجتياز الحدود مرة أخرى، آه كم أكره الحدود ؟ كم تكرهني الحدود ؟ ولكن أين تبدأ الحدود ؟ تخوم خالية وجبال تتوسد الأفق اللامتناهي، جبال تمسك بأيدي بعضها، كل يلتصق بالآخر. تجعد وجه الأرض التي عرفناها مبسوطة لاتقاوم خطواتنا. كانت ظهورنا مثقلة بالأحمال. من بيروت حملت معي كتباً وحمّلوني أخرى. كان الأمر في الساعات الأولى هيناً ثم بدأت الجبال تصعد الى السماء ثم تهبط وتعود صاعدة الى السماء وكنا بعد إكمالنا مهمة الصعود الشاقة ضد الجاذبية نتخيل أنفسنا قد بلغنا المراد لكننا لا نكاد نصل القمة حتى تبرز أخرى ويأتينا جواب الدليل : "نيف ساعت!"
نيف ساعت! نصف ساعة ونصل!. كنا نعدو الليل كله وشطراً من النهار، مرة متسلقين وأخرى هابطين كأننا نطارد غزلاناً هاربة . "نيف ساعت "! ثقلت الخطى، وبدأت الأرجل تتخشب فصار كل شئ ثقيلاً ، نيف ساعت، البطانية محمولة على الظهر مشدودة لحقيبة، في الحقيبة حاجيات متنوعة ، أدوية ، سكر، ،شاي، وكتب وصرر وصناديق مغلفة لاأعرف مابها. ثقلَ كل شيء، نيف ساعت ، قانون الجاذبية يفتك الآن بنا. أسفل الجبل جلس إسحق نيوتن يشدني الى الخلف..وفي أعلاه شيخ يومئ لي : "هيا تسلق ...بيشمركة عرب"..كان دليلنا الشيخ الثمانيني يعب دخان سيجارة لا تنطفئ وهو يسخر من أرجلي التي تتمرد على أيعاز الدماغ ..ثمة أمل في أن تنقضي النيف ساعت! والدليل ذو السيكارة التي لاتنطفئ يردد بهدوء وثقة .."نيف ساعت ..كاك عرب" ..ياربي الى أين نحن ماضون ؟ أجمل مايمكن تخيله الآن هو الصعود الى السماء عارياً، عارياً من كل شيء يشد الجسد الى أسفل. عارياً من الأحمال، عارياً من الملابس وهذا الجينز الذي يقيد الساقين، عارياً وحين يصيح بي الدليل : "هيه..هه فال ..أفه جيا ؟ عيبه بابا" سأقول له صه أنت يا أخا الكرد وقدنا نحو قمتك الراكضة، هنا سوف لن يرانا أحد ،أين هي القمة التي تعدنا بها منذ البارحة ؟ لقد إنتهت الأرض ، طفناها كلها مثل "ماجلان" وها نحن نعود لذات الجبل فما فرق هذا الجبل عن الذي تسلقناه يوم أمس؟
ثقل كل شيء مستقر على ظهري ،حتى الورقة أمست بثقل جبل ،القصائد، والسطور، والفوارز، والحروف، وهمزات الوصل كانت تشدني للخلف، فكرت للحظة أن القي الكتب في كهف طعاماً لأغنام وماعز ستأتي لاحقاً. كنت أرتب في سري دفاعاً ضد ضميري الذي سيحاسبني على ترك الكتب التي لاثمن لها...حين أشار الدليل: "إستراحت"!
لم أنم.كان ألم مفاصلي ممضاً. كنت أرمم جسدي المتهاوي . فجأة وفي عمق الليل ترائى لي خلال الإستراحة ان دليلنا قد هرب. لم أره في الكهف نهضت فزعاً فرأيته منتحياً جانباً قرب صخرة ممسكاً بسيكارته الأبدية متبادلاً معها حوار الحرق ..يمتصها فتلتهب ثم تلهب هي أحشاءه فينفث الدخان وهو يحدق في العتمة . عدت لكهفنا العابق برائحة العصر الرعوي . خفت أن ينتبه لي فيوعز لنا بالنهوض : نيف ساعت! عدت الى فراشي الوثير المكون من طبقة من روث ماعز جاف وأغصان شجر السرو وغصت مع هواجسي مناجياً نفسي ماذا لو إنقطع الخيط ؟ ماذا لو مات الدليل فجأة ؟ من سيمسك بالحبل ثانية في هذه الجبال الخالية الا من دوريات الجيش التركي وبيوت الرعاة ؟ كانت الأمور تسير بإنتظام دون أن تدع مجالاً للشك بتوقع حدوث خطأ ما ، دليل يسلمنا لآخر والآخر يسلمنا لثالث دون أن نفهم شيئا أو نهتم لشئ ..ناموا ننام ... أستعدوا .. نستعد ..كلوا.. نأكل ..كل شئ بلغة الإشارة .. ليل سهران متعب يلقي بنا الى أشداق نهار مازال يتثائب فنغط نائمين منزوين بأحضان كهف لنستفيق قبل أن يغادر النهار مستعدين للإنصياع اللامشروط لدليل آخر غير منتبهين لقدوم الكارثة.
نحن الآن في بيت تسكنه ملايين البراغيث ورجل وزوجتاه ، أتانا " محمد درويش" دليلنا الجديد على تراكتور كان رجلاً عصياً على الوصف، راح يتحدث لنا عن كل شئ وأبدى أسفه وخيبة أمله لكوننا لانفهم مايقول وكنا بعد قرابة الساعة قد ولجنا مشارف قرية أخرى فترجل " محمد درويش" وقال هامساً ما معناه:
" نصف ساعة وسأعود" " نيف ساعت!" وأشار الى نصف أصبعه " نيف ساعت!" ،وكرر إشارات فهمنا منها أننا يجب أن لا نتكلم بشئ.
تبعناه الى حيث مدخل دار كبيرة ، وإتفقنا أن لا نسأل عن شئ مخافة إثارة الشكوك خاصة وان آخر وصايا " محمد درويش" قبل أن يمضي بتراكتوره هي إشارة الصمت :
أأأأِششششش ....قالها وهو يضع يده على فمه ! كأن الخرس الذي نحن فيه لا يكفي..أشششششششششش
جلسنا في البيت الجديد نرد على كلمات الترحيب بكلمتين لاغير:
" كلك سوباس " [1] بصوت واحد وبإيقاعات مختلفة. هذه هي ذخيرتنا الوحيدة من اللغة بمقابل رشّقات الترحيب الكردية المتلاحقة، وهكذا إستنفدنا ذخيرتنا اللغوية المتواضعة خلال الدقائق الأولى ولم تعد تنفعنا بشئ .ليس بالأمر اليسير أن تصمت لنصف ساعة وتكتفي بترديد " كلك ممنون" ، كلك سوباس "، وتبلع الأسئلة التي لاتفهمها ، وتؤلف الأكاذيب، أو تشغل نفسك بإصلاح حزام حقيبتك أو السؤال عن التواليت أو التشاغل مع "أحمد أبو إدراك" ذي الصوت الخفيض الذي لايكاد يُسمع، أو إدعاء البله والصمم لكي تمر الأسئلة المتلاحقة الى جانب أذنيك دون أن تعيرها إهتماماً ،أو أن تقنع " زيدون ابو عبود" أن يكف عن إستعراض معلوماته السياحية فلا يسأل ببراءة" "جنده ساعت بو موصل؟"[2]
هاهي ساعة كاملة من الخَرَس تمر .. وأثنتان ...أعتمت السماء ولا محمد درويش في الأفق ،محمد درويش ألم تقل نيف ساعت؟ ..محمد درويش ابزغ علينا وأنر هذا الليل المدلهم....محمد درويش نحن لا دليل لنا بعدك..ولا لسان ....اين ترانا سنذهب في هذه الجبال المقفرة؟
إزداد تيار الأسئلة تدفقاً شيئاً فشيئاً من قبل المضيّف . بداية زوبعة تلوح في الأفق فصاحب الدار ليس على علم بمهمتنا أو الجهة التي سنتوجه اليها وأخيراً حامت أسئلة المضيّف حول هوياتنا :
"مملكت؟؟ "
ياربي كم أكره هذا السؤال!
كان قصده واضحاً: من أين أتينا. لابد أن ننكر انتمائنا لأية "مملكت" أو "قوميت"، او " مدينت" لسنا عرباً، ولاكرداً، ولا أي شئ أخر، نحن لاشئ! ولا نتكلم اللغات التي يعرفونها لا العربية ولا الكردية ولا التركية أما كيف جئنا الى هنا فكان جوابنا إشارة منا الى أحذيتنا الرياضية حيث إدعينا لعب كرة القدم ضد فريق "ماردين" . لقد قال لنا " محمد درويش" اِششششششششششششششش!
لم تكن هذه القصة المهلهلة لتقنع أحداً على مايبدو، ولما عجز المضيّف عن إستنطاقنا أرسل في طلب شيخ المسجد الذي كان يتكلم قليلاً من العربية الفصيحة فكان لابد لنا أن ننكر معرفتنا بالعربية لكن الشيخ أوصل لنا رسالة واضحة مفادها أن صاحب البيت يشك بشرعية وجودنا ويطلب منا إبراز جوازات السفر...والا....!!!!!
[1] شكراً جزيلاً بالكردية البهدينية
[2] بالكردية، كم ساعة لكي تصل الى الموصل
2 - آغا النحس
غادَرنا الشيخ وقد خلف في فضاء الغرفة سحابة كثيفة من الشكوك حول حقيقة وضعنا. كانت هذه السحابة تسير نحو التكاثف التدريجي مع ولوج الظلام لتمطر أسئلة لزجة أتجَهت رويداً وجهة التهكم بدلاً من الإستفسار.. وسرعان ما إنخرط الأب والإبن بنقاش فهمنا من خلاله أن مصيرنا يتوقف على لحظة نفاذ صبر المضيّف الذي راح يطوّر موقفة ليصيغ الحل الكارثي الأتي:
بما أنكم لاتحملون جوازات سفر .....وأنتم داخل حدود الدولة التركية ولا تعودون الى أية "مملكت" أو "دولت" فساسلمكم للشرطة التركية !!!"باسابورت نيا ...جندرمة هيا......" [1]
كان "صدام حسين" قد وقع للتو معاهدة أمنية مع تركيا حول تبادل المتسللين السياسيين وكانت التبليغات التي إستلمناها تنص بصرامة على تجنب الحديث بالعربية، لأن المخابرات على علم بتسلل العراقيين الى كُردستان من حدود سوريا.
كانت مفردة " البرية" من المفردات القليلة المشتركة بين خرسنا واللغة الكردية المحلية
قلنا لمضيفنا مؤشرين الى الخارج ما معناه:
" أتركنا إذن نخرج للبرية!"
رفض صاحب الدار لإعتقاده اننا سنعتقل وسنبلغ عنه .. فنحن مصابون بالجرب لا "مملكت" لنا ..حتى الكلاب الضالة تنتمي الى "دولت" و"مملكت" الاّنا...
مضت قرابة الأربع ساعات. لم تبن بارقة من "محمد درويش" في الأفق . وفي لحظة ما من لحظات تلك الساعات العجاف حين كان باب المجلس قبلتنا، ومحط آمالنا، وباب الفرج المنتظر، فُتح هذا الباب فجأة ووقف الأب والأبن وكل من في الدار فزعاً..ووقفنا نحن أيضاً. نحن الآملون بقدوم المخلّص "محمد درويش".
لم يدر بخلد أحد منّا أن فصلاً جديداً من التراجيديا سيحلّ. كان القادم الجديد هو "الأغا" الذي شكل قدومه بلحيته البيضاء الطويلة، وبكفيه الممدودين بكل إتجاه لإنتزاع القبلات وفروض الطاعة طعنة لحلم التحرر من المآزق .
أُحيط الأغا بالإهتمام والتعظيم، واُجلس مكاناً خاصاً في صدر المجلس الذي بدأ يمتلئ تدريجياً بالناس القادمين من بيوت أخرى. وبعد أن مرت دقائق الترحيب المُعدّ سلفاً بتلقائية، دارت عيون الأغا بإتجاهنا مستفسرة وسرعان ماشرع بتنفيذ خطة معركة نذلة لاإنسانية غير متكافئة ضدنا. طلاقة لسانه مقابل خرسنا ، مكانته كأغا مهيوب الجانب بمقابل ضآلتنا كأجانب ضائعين، سلطته الدينية والدنيوية مقابل عجزنا الكلي. إنهمك آغا النحس بقص حكايات، وطرائف من الماضي كانت تهزّ أركان المجلس بنساءه ورجاله وأطفاله ضحكاً، ولم ندر إن كانت موهبة الأغا الكوميدية هي السبب في هستيريا القهقهات أم انه ضحك مفروض على هؤلاء المساكين طلباً لرضى الأغا فتجمهر القوم على شكل حلقات متداخلة في الجانب البعيد من المجلس . كانت قهقهات النساء المنزويات خلف أطفالهن تصل عبر أصابعهن التي لاتفلح غالباً في حجب الأسنان الطويلة النخرة المكشرة ، فيما كان الأطفال واليافعون قد وجدوا فجأة مايمكنهم الضحك منه.. كانت مهزلة مرة .. لهجة السخرية التي إتصفت بها حكايات الأغا والتفاتاته المتكررة نحونا في ذروة كل مشهد كوميدي وتكراره لكلمة(عربه) بين أقصوصة وأخرى، تشي بإفتضاح أمرنا وإكتسح جمجمتي سؤال خطير :
"هل ترانا سنساق لملاقاة مصيرنا كالنعاج..بلا مقاومة؟"
كنت في الثامنة عشرة من عمري مستعداً للموت في معتقل وزارة الدفاع دفاعاً عن كرامتي وصيانة للعشرين إسم من أسماء المناضلين الذين أعرفهم ، لم يرهبني العسكري الذي سحب أقسام بندقيته وصوبها
نحوي وأنا معصوب العينين، وحين بلغت الثانية والعشرين كنت أستعد في زنزانة الامن أيضاً مرة أخرى للموت وأتقبله كبديل عن تأييد "صدام حسين"، وحين أتى صدام للبصرة وأوعز بإطلاق سراحنا على غير توقع شعرت كأنني إنتصرت عليه شخصياً، لكني أحس الآن أن حياتي رخيصة لاتساوى ثمن نعجة أو دجاجة. أنا ومن معي لا نساوي شيئاً على الإطلاق، نحن رهن للصدفة .
مرات، يتأرجح الإنسان في مواقف خاصة بين حدود الوعي والغيبوبة ، الحكمة والتهور، لايكاد يميز بينهما، تتحرك في أعماقه قوى خفية ومضادات بعضها كالأدرينالين تمنحه طاقة إضافية لمواجهة الخطر. كان إحساسي بالخطر الداهم المتأتي من تجاربي السابقة في الحدود وزوغاني المستمر لسنين عن شرطة صدام قد حفز تلك القوى بأعماقي فراحت خلاياي تستنجد ببعضها من أجل إنارة ولو فسحة صغيرة من الظلام الدامس الذي لفّنا. تزايد الشعور لدي أن الشبكة في طريقها لأن تُلقى علينا، وأن مساحة المناورة التي توفرت لنا في البداية عبر الأكاذيب والتهربات غير الأنيقة من مطاردة الأسئلة بإنتظار عودة درويش قد بدأت تضيق . ألقيت نظرة على رفاق الدرب، كانوا جالسين منكمشين بلا حراك وبدرجات متفاوته من الإحساس بطعن الكرامة التي مزقتها طرائف الأغا. شيء ما إنتفض بي فوجدتني أنهض فجأة لأخاطب الشاب بصوت متحد وبلغة عجيبة هي خليط من بضع كلمات بالكردية والفاظ غريبة وأشارات دفعتني الحاجة الغريزية لتأليفها:
"أزانم باسبورت به دار محمد درويش!!"
إستفسر الشاب مني بتلهف عما أقصده وكأنه وجد في ماأقول ممراً يهرب من خلاله من ملاحقة أسئلة الأغا وكوميدياته وغضب أبيه ، أو هكذا تصورت .
أعاد على السؤال وفهمته هكذا:
"هل تقصد أن جوازاتكم في بيت درويش وهل تعرف الطريق لتلك الدار؟ "
قلت بثقة بلغة الإشارة وبكم غير متوافق من الكلمات ماقصدت أن يكون:
"نعم نحن تورست. سواح مسافرون شرعيون وجوازاتنا هناك، وإذا رافقتني سأعود بالجوازات خلال نصف ساعة.. نيف ساعت" "!!"
وكررت أمامه مافعل " محمد درويش" بأن وضعت سبابة كفي اليمنى على منتصف سبابة كفي اليسرى.. "نيف ساعت!!"
تبادل الشاب بضع كلمات مع والده والأغا وبدا أنه حمل كلامي على محمل الجد فقال:
"هيا بنا إذن!!"
[1] أي إذا لا تملكون جوازات سفر فالشرطة موجودة والجندرمة هي شرطة الحدود التركية
3 - البحث عن قرية درويش التي لاوجود لها
لا أدري للآن كيف إستوعب رفاق الدرب هذه المبادرة الغريبة فهم يعرفون أن حكاية الجوازات هي كذبة إختلقناها بعد وقوعنا في المأزق، لكنهم أستسلموا على مايبدو للقدر مصدقين الكذبة وغير معارضين لطريقتي في البرهنة على صحتها طالما إنعدمت أية وسيلة أخرى لتحررنا من المأزق.
لم أكن قائداً للمجموعة ، لكن إحساساً دافقاً هاجمني : إن لم أتحرك الآن سنمضي الى حتفنا كالخراف! كانت الفكرة التي ومضت فجأة في رأسي جنونية لامثيل لها، ولكن لابديل لها أيضاً.
كنت أثناء مجادلتي لصاحب البيت الشاب وطلبي منه أن يتركنا نغادر بيته الى الجبل على مسؤليتنا، قد لمحت على عجل مسدساً مدسوساً باهمال في خاصرته اليمنى وقد اتجهت حواسي كلها للتفكير بخطة للإستيلاء على المسدس ومحاولة إستغلاله لفرض شروطنا وهي شروط بسيطة: السماح لنا بالخروج من البيت الى البرية أو الجبل والتخلي عن فكرة تسليمنا الى شرطة الحدود.
وهكذا فكرت في إستدراج الشاب الى " البرية" والتفكير هناك بطريقة ما للإستيلاء على المسدس ولكن خطتي كانت أن يصاحبني أحد رفاق الدرب لضمان نجاح العملية . رفض صاحب البيت خروج أكثر من شخص ولم يفطن أحد من جماعتي الى مقصدي فيلح بضرورة مرافقتي كما أنني خشيت مناقشتهم لكي أطمأن صاحب البيت أن نيتي سليمة تماماً ! وقد ناقشت فكرة خروجي بمفردي سريعاً مع نفسي فوجدت أن أقل ماتحققه من كسب هو الكسب الزمني على أمل عودة " محمد درويش" .
غادرنا الدار والجين درباً كثيف الأشجار لايكاد القمر أن يكشف معالمه، وكان المشهد مخيفاً حقاً ، ماأن تخطينا القرية حتى جذبني مضيفي من يدي محاولاً إفهامي تعليماته :
حين أقول لك إنبطح أفعل ذلك !!"..قالها بالإشارة
وتيقنت عندها أننا ننام بين شدقي تمساح دون أن ندري، فالقرية التي نسكنها قريبة جداً من موقع عسكري تركي . كان صاحبي يتحدث اليّ بحديث خفيض غير مفهوم بيد أني أستطعت أن أتبين منه أن إحتمال الإصطدام بالجندرمة التركية وارد في كل لحظة، كانت عيناي تراقبان المسدس ، حاولت أن أفتح معه حديثاً، أردت أن أجرب آخر ما لدي لإقناعه اننا لسنا أنذالاً في كل الأحوال، فكيف سنشي بمن آوانا؟
لكن بأية لغة سأتحدث مع صاحبي؟ نحن خرسٌ. تعثر اللسان وطارت أنصاف الكلمات التي أعرفها بعيداً عن رأسي فسكتُ. كانت عيناي تتلصصان بخفة على موضع المسدس ، هل سأتمكن من إنتزاعه منه؟ وبعد ذلك؟
عاد الي بعض عقلي، عاد المنطق والحكمة ووجدت ذهني فجأة صافياً وأستمر المونولوج بيني ونفسي: لنفترض أن المحاولة فشلت ما تراه سيفعل بنا؟ أقل ما يمكن تصوره هو تسليمنا مباشرة للشرطة ، سألني بدون أن أكون مستعدا:
"في أي إتجاه سنسير ،أين هي قرية محمد درويش؟"
لم أنتبه للسؤال وفجأة كما لو أنه قرأ ما يدور في رأسي صوّب الي نظرة وطلب مني بلهجة لا تخلو من صيغة أمر:
"إبق على جانبي الأيسر!"
لقد أحبط للتو "الجانب المسلح" من خطتي ، إنتهى الكفاح المسلح ، بعد الآن سوف لن أكون قادراً على الإستيلاء على المسدس.
أعاد علي السؤال:
" أين هي القرية ..الى أين نتجه؟"
قلت بدون تردد الى هناك وأشرت ناحية اليمين
فقال:
"لاتوجد هناك قرى!"
قلت:
"إذن الى هناك" وأشرت بيدي الى الجهة المعاكسة.
وعلى غير توقع لاح من بعيد شبح فجذبني مرافقي من يدي وأنبطح ففعلت مثله، فصاح بالشبح وتعارفا
قدم الشبح الذي كان مسلحاً ببندقية نحوي جانباً وقال:
"ناوم قاسم، بنج هه فال يك كلاشنكوف ! دجلت عبور؟"[1]
كانت خطتنا المجمّدة بفعل إختفاء "محمد درويش" أن نعبر دجلة في اليوم الثاني قلت في نفسي: لقد كُشفنا وأن لم نُكشف فها هو مهرّب يعرض تهريبنا نحن الخمسة مقابل أن نعطيه كلاشينكوف ، ومن أين لنا بالكلاشينكوف ؟ ثم كيف لي ان أثق بمسلح مجهول الهوية؟ وحتى لو عبرنا ما ترانا سنفعل فيما بعد؟ قلت على الفور:
" كلا ..كلا ليست لنا علاقة بدجلة "
كرر قاسم بإلحاح:
"بنج هفال يك كلاشنكوف ! دجلت عبور؟" وكررت جهلي بدجلة والكلاشينكوف ثانية!
عاد "قاسم" الى الشاب ليتبادل معه كلاماً لم أفهمه، ثم مضى في سبيله.
مضينا في ذات إتجاهنا السابق ، قرابة النصف ساعة بلا جدوى، أنا أطلقت كذبتي الكبرى حول قرية " محمد درويش" والجوازات ومرافقي صدّقها منعاً لليأس، لكني أسمعه الآن يقول لنفسه يائساً:
" لاتوجد قرية "محمد درويش" لا هنا ولا هناك ولا في أي مكان آخر.
فجأة جذبني من يدي:
"إنبطح... إنبطح...."
كان شبح جديد قد إقترب منا مسافة لاتزيد على العشرة أمتار دون أن نحس بوقع خطواته ، أشبه بالجني يرتدي البياض .. ومن جديد تقدم الشبح الجديد نحوي، أمسك بيدي وأنتحى بي جانبا قائلاً كلمات بالعربية كادت أن توقف قلبي:
"من أية مملكت أنتم؟"
آآآخ مرة أخرى ..هذه المملكت .... لايمكن هذه المرة التهرب من التجاوب مع لغته العربية ، سوف لن تنفع بعد الآن أكذوبة فريق كرة القدم، ماالعمل وما التصرف المطلوب لمواجهة هذه الكارثة الجديدة؟
كرر الشبح سؤاله مضيفاً اليه السؤال الأكثر صراحة وحراجة:
" من أين أنتم قادمون والى أين أنتم ذاهبون؟"
قالها وهو يحدق بي بإمعان بإنتظار الجواب ورأيت كيف التمعت عيناه عاكستين ضوء القمر الواهن، صمتُ، لم أدر كيف السبيل للخروج من مستنقع الأسئلة اللزجة الذي دحرجني اليه .. عالجني بسؤال كلكمة موجعة غير متوقعة :
" ألستم من العراق؟؟؟"
أردت ن أقول "كلا" لكن الحروف التصقت ببلعومي ، كان الشبح مصراً على سماع كلمة نعم ،وبينما كنت أحاول فك عقدة لساني أنقض علي بلكمة أشد:
" ماعلاقتكم بالعرب الموجودين في الجبال؟"
كنت كمن أنتبه الى نفسه فجأة أنه عريان في ساحة عامة ، قلت في نفسي : اما اننا كُشفنا بالكامل أو أن معجزة في طريقها لأن تتحقق، أجبت بالتواء وتمهل:
"في الحقيقة ،علاقة نحن..... أصدقاء للجماعة....ولكننا سواح ..باسبورت لدى " محمد درويش" الذي يسكن على بعد نصف ساعة"... نيف ساعت" من هنا!
قال الشبح بلغة عربية قاموسية وهو يستعد لسماع تأكيد مهم مني:
" " محمد درويش" الان زندان! حبس! عنده خمسة شباب عراقيين ، بعثنا "قاسم" وهو من مقاتلينا الأشداء للبحث عنهم لكن دون جدوى ، نعطي أربعين شهيداً ولا تمس رجل أحدهم بأذى ، ألستم انتم رفاق درويش الخمسة؟
ياربي ، يالها من معجزة ! نجونا! سنعود من جديد لمطاردة غزلان الجبل ، نيف ساعت ! وجدت نفسي أعانقه بإنفعال وبشبه غيبوبة متأرجحاً بين الحلم والواقع.. لكني تركت خيطاً رفيعاً من الشك لم أشأ قطعه، الجوازات !! قلت له نعم ..نحن هم ولكن ...جوازاتنا بحوزة " محمد درويش"
حين دخلت البيت برفقة مضيفنا ومسلح، ووقعت عيناي على رفاقي اليائسين إنتابني إحساس بأنني كسبت معركتي الأولى في كردستان قبل أن أصل المقر . إقتادنا الدليل الجديد الى منزل أخر مريح وغاية في الكرم وفي اليوم التالي تلقيت رسالة خطية منه تقول:
" أيها "الرفيق العظيم" إتصلنا بمحمد درويش ويقول لا يوجد باسبورت"
وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة في حياتي التي يناديني فيها أحد بلقب " الرفيق العظيم"
[1] الترجمة كما فهمتها آنذاك : إسمي قاسم خمسة أشخاص ( رفاق) ببندقية كلاشينكوف ، عبور دجلة؟